السبت 05 تموز 2025 الموافق 10 محرم 1447
عاجل
آخر الأخبار

كيف تحذف ستة ملايين برميل: عن ضربةٍ غيّرت كلّ شيء.... قلب السعودية يحترق!

ياصور
«ليكن هذا النفط فدائياً
أو ننسفه
ونعيش على العزّة والحطب»
مظفّر النواب

الذين خططوا للهجوم على مجمّع "ارامكو" في بقيق، كانوا يعرفون ماذا يفعلون. إن قيل إنّ نقاط الضعف في الدّول الخليجية تتمثّل في منشآت النفط ومحطات إنتاج الطاقة ومعامل تحلية المياه، فإنّ موقع بقيق (تكتب أيضاً «ابقيق») يضمّ أكبر وحدةٍ لمعالجة النفط في السعوديّة، وفيه أيضاً محطّة طاقة هائلة، وملحقٌ به معملٌ ينتج ما يقارب ثلث المياه التي يتمّ تحليتها في السّعوديّة.
حتّى نفهم أهميّة مركزٍ مثل بقيق في عمليّة انتاج النفط، ولماذا يشكّل "نقطة خنق" في المنظومة، فالقصّة بتبسيط هي كالآتي: النّفط، حين يخرج من باطن الأرض، يكون في حالة ضغطٍ عالية، ويختلط به غازٌ وشوائب، فلا إمكانية لاستخدامه وهو خارجٌ من البئر. عليك أوّلاً أن ترسل النفط الى وحدة تكريرٍ خاصّة (تكون عادةً على مقربة من موقع الإنتاج) تعالج النّفط لكي يعود الى مستوى الضغط الجوّي الطبيعي، ويُفصل عنه الغاز، ويصبح في الإمكان إرساله الى المصافي أو الى مرافئ التّصدير. من دون هذه العمليّة، لا يمكنك استخدام النّفط أو حتّى استخراجه وتخزينه؛ وموقع بقيق كان يعالج كلّ النفط الذي يخرج من حقل "الغوّار" الهائل وحقول مجاورة، أي ما يقارب نصف إنتاج السّعوديّة أو خمسة بالمئة من الاستهلاك العالمي بأكمله.
من هنا، وصف أحد الخبراء موقع ابقيق بأنّه "أثمن عقارٍ على كوكب الأرض»، ولهذا السّبب اتّصل ترامب بولي العهد السّعودي "معزّياً" وقلقاً بعد الهجوم (هو لا يتّصل بقادة الخليج حين يُقتل جنودهم وضباطهم، مثلاً، في اليمن، ولكن هذه مسألة «تمسّ الاقتصاد الأميركي والعالمي»، على حدّ قول ترامب)، ولهذا السّبب تخرج التصريحات التهديدية من بومبيو وغيره. وقد حصل، بالتّوازي، استهداف مجمّعٍ قرب حقل "خريص" ايضاً، ولكنّ التسجيلات التي خرجت من بقيق، حيث السّكن قريبٌ الى مكان الهجوم، هي التي صنعت الحدث من الناحية الإعلامية وأظهرت حجم ما جرى؛ الّا أنّنا نعرف أن الإنتاج في حقل "خريص»، هو الآخر، قد توقّف. في كلّ الأحوال، فإنّ هذا الهجوم، على عكس سابقيه، لا يمكن "إخفاؤه" والتستّر عليه تحت شعار "حريقٍ بسيط تمّت السيطرة عليه»، اذ إنّ آثاره ستكشف عن نفسها في سوق النّفط: أعلنت السّعودية أنها قد خفضت انتاجها بأكثر من خمسة ملايين برميل يوميّاً (أي ما يعادل انتاج الإمارات والجزائر وليبيا معاً)، وكشفت صور الأقمار الصناعية عن سحب الدّخان تتصاعد على طول خطّ الأنابيب الذي يخرج من "الغوّار»، في دليلٍ على قطعٍ فوريّ للإنتاج (حين يتوقّف الانتاج فجأةً في حقلٍ نفطيّ، فأنت تضطرّ الى تنفيس الضغط في الأنابيب عبر سحب كمياتٍ من النفط الذي يندفع بداخلها، وإحراقه في أماكن معدّة لهذا الغرض).

اليمن لن يخرج من هذه الحرب خاسراً مهزوماً ناقص السيادة، واليمنيون لن يفاوضوا مجدداً من موقع الضعيف

زعم مسؤولون سعوديون لوكالات غربيّة أنّ الانتاج سيعود خلال أيّام، ثمّ عاد وزير النّفط السعودي ليقول إنه سيقدّم تقييماً للأضرار خلال يومين من دون التزامٍ حول موعد عودة الآبار الى العمل، وهنا الاختبار القادم لحجم الحدث: خلال 48 ساعة، إن عاد الإنتاج الى الحقل الكبير وأصدرت "ارامكو" بياناً مطمئناً، فسوف ترتاح الأسواق، وإلّا تكون قصّةٌ أخرى (المضاربون، بلا شكّ، يقومون الآن بالمراهنة على ما سيحصل بعد يومين، ويشترون عقود نفطٍ مستقبليّة أو يضاربون ضدّها). لا تسمح الحكومة السعودية بنشر صورٍ للأضرار، فالجميع يخمّن في هذه المرحلة، ولكن خبيراً نفطياً عمل في مواقع مشابهة يقول إنّه، بالنظر الى صور الانفجارات، فهو لا يتوقّع أن تكون هناك أيّة أجزاء لا تزال تعمل في المجمّع بأكمله. إصلاح منشآتٍ بهذا الحجم يستغرق أشهراً، وإعادة بنائه تستلزم سنوات ــــ ولكنّ البلد النفطي يمتلك طاقة احتياطيّة لمعالجة النفط في مواقع أخرى، وقد يكون بالإمكان نقل نفط "الغوّار" اليها. ولكنّ جوهر الحدث هنا هو أنّ المحرّم قد كُسر، وشاهدنا "درّة التّاج" للنّظام النّفطي وهي تشتعل عالياً ووهجها يضيء السّماء، لا حصانة ولا مناعة لمصالح النّفط، والسؤال الأهمّ: ما الذي يمنع تكرار هذا الفعل بعد الآن؟ لهذه الأسباب لا يزال العالم يحاول استيعاب ما جرى، وفهم شروط المرحلة القادمة في المنطقة، بعدما أرسى اليمنيّون فجر السّبت معادلةً جديدة: عشر طائرات مسيّرة مقابل ستة بالمئة من إنتاج النفط العالمي.

أبراج النفط تحترق
السّؤال الحقيقي، بالمعنى التّاريخي، هو ليس "لماذا حصل الهجوم" أو "كيف"؟ بل لماذا تأخّر الأمر حتّى اليوم، حتّى فعلها اليمنيّون؟ الغريب هو أنّ عبد النّاصر لم يفعلها، والعراقيّون لم يضربوا النّظام السّعودي ــــ بعد كل ما فعلته الرياض بالعراق ــــ في مكانٍ يؤلمه؛ والغريب هو أنّ السوريّين لم يردّوا بصواريخهم على مصدر الشرّ حتّى حين احترقت بلادهم، وإيران نفسها ــــ على طول الحرب المريرة مع العراق ــــ لم تقدم على ضرب مراكز النفط مباشرة (ولو فعل أحدهم ذلك لما كنّا اليوم هنا). ولكنّك، حين تستسهل العدوان على الغير، وتعيد الكرّة مرةً بعد أخرى، سوف تقع في نهاية الأمر على من سخّره الله لإذلالك؛ والتّاريخ يرتّب الأمور ليصنع لنا مشهداً كهذا، فيه أمثولةٌ وحكمة. يكفي أن تقارن بين اليمنيّ المحاصَر الفقير وبين الأبراج اللامعة الهائلة في موقع "شركة الزيت العربية الأميركية" في بقيق، وكيف قام اليمني بالانتقام ممّن غزا بلاده فأحرق أبراجه ومنشآته التقنية الثمينة، حتى تفهم أنّ ميزان القوى في الإقليم قد انقلب بشكلٍ حقيقيّ؛ وأن اليمنيّين هم وحدهم من ردّوا الصفعة الى النّظام السّعودي، نيابةً عن كلّ ضحاياه.
المسألة هنا ليست في "الشماتة" أو "الحقد" (والحقد ليس خطيئة حين يكون مستحقّاً، وإن لم نحقد على النظام السعودي فعلى من نحقد؟). الشماتة الحقيقيّة، والحقيرة، هي حين تنظّر لغزوٍ يدمّر اليمن ويقتل مستقبل الملايين، والشماتة هي حين تعيش مرحلة ازدهارك وانت تجوّع العراق تحت الحصار، ثمّ تزرع مدنه بالمفخخات، والشماتة هي حين تهلّل لتحويل سوريا الى أفغانستان. تقول شركة "ارامكو" إنّ أحداً لم يصب في الهجوم، والخسائر ماديّة بحت، وهي أصابت قلب النّظام السّعودي؛ فعلامَ يفترض بنا أن نحزن، كعربٍ يعيشون حالة الحرب الدائمة في هذا العصر الخليجي؟ على وضع "سوق النّفط العالمي»، أم على إصدار أسهم "ارامكو»، أم على خزينة الأمير وتمويل جيشه ولوحاته ويخوته؟ كلّ ما في الأمر هو أنّ "نمط انتاج الثروة" في المنطقة قد تعرّض لتعديل: بعدما كان مال النّفط يذهب لتمويل الهيمنة على العرب، والهيمنة عبر التمويل، ولإشعال الحروب الداخليّة، وأخيراً، الغزو المباشر، أصبحت الثروة النفطيّة هي الأخرى في مرمى العربي الفقير، ونفطك ليس أغلى من دمهم.

من الجهة السياسيّة، فإنّ أوّل ما حصّله اليمنيّون كان أنهم قد ضمنوا انهاء الحرب عليهم. لم تعد مسألة استمرار الحرب خياراً بالنسبة الى الرّياض، واستمرار مثل هذه الضربات يعني الإفلاس ببساطة. دخلت الرياض الحرب وهي مطمئنة، بلا شكّ، الى أنّ بناها الحيوية ستكون خارج مدى اليمنيّين، وأنّ أقصى ما يملكونه هو بقايا من ترسانة الـ«سكود" القديم. لو تخيّل ابن سلمان أنّ اليمن سيطوّر، تحت الحرب والقصف، قدرات ويذهب بها الى مواقعهم الحسّاسة، لما دخل الحرب بالتأكيد، بل لمنعته اميركا من خوض الحرب. واليوم، حتّى لو أراد ابن سلمان أن يستمرّ في القتال في اليمن، فإنّ ترامب سيمنعه.
حقّاً، فإنّ البعض يملك نظرةً سحريّة عن مفهوم "التفاوض" و"المناورة" و«الذكاء»، كأنّها في ذاتها يمكن أن تتحايل على ميزان القوى، فيما التاريخ يثبت لنا ــــ للأسف ــــ بأنّك لا تكون مقنعاً في المفاوضات إلّا وأنت توجّه مسدّساً من تحت الطّاولة، وغير ذلك قد تطول الحرب في اليمن ــــ وغير اليمن ــــ لسنوات، فيما السياسيّون يفاوضون و«يناورون». نقطة الضعف معروفةٌ منذ زمن، وهي جيوب حكّام الخليج، فهم لا يهمّهم أن تهزم ميليشياتهم في الإقليم، أو أن يموت كلّ من يدفعون له الرواتب ليقاتل (هم يتابعون هذه الأحداث، بفرحٍ أو تحسّر، كمن يشاهد مباراة رياضيّة)، ولكن أن تصل الى نفطهم وميزانيّتهم فالأمر يختلف تماماً. منذ سنتين، كانت الرياض تفاوض اليمنيين على نصف اليمن، والبارحة كانت تفاوضهم على شكل النظام في المستقبل. أمّا اليوم، فهدف التفاوض ــــ ببساطة ــــ هو أن يوقف اليمنيّون هجماتهم ويكفّوا عن المنشآت الحساسة السعودية (وهذا خبرٌ سيئ جدّاً لحلفاء الرياض في اليمن، فهم آخر من سيتمّ اعتباره في سياقٍ كهذا). والجميع في المنطقة يراقب ويأخذ العبر.

نقاط الضّعف
البديل أمام الرياض وواشنطن هو أن يوسّعوا دائرة الحرب ويجعلوا الهجوم عليهم مكلفاً عبر جرّ إيران أو العراق الى المواجهة (فلم يعد هناك لدى اليمنيين ما يمكن أن تهدّدهم به لتردعهم). ومنذ اللحظة الأولى للهجوم، والإعلام السعودي يحاول أن يجد "مذنباً"، داخلياً أو خارجياً، يعلّق عليه ما جرى. خرجت نظريّة بأن الطائرات (أو الصواريخ الجوالة) قد أُطلقت من العراق؛ ثمّ اتّهم بومبيو ايران، وفي النهاية قالها السيناتور ليندسي غراهام بوضوح: يجب ضرب المصافي الإيرانية كردٍّ على ضرب المصافي السّعوديّة.
لو كانت هذه الأمور تجري في الثمانينيات لكانت هذه التهديدات حقيقيّة وجديّة، بصرف النظر عن القانون الدولي والأحقيّة والدلائل المادية وكلّ هذه الأمور: سهّلت اميركا والخليج ضرب منشآت النفط الإيرانية يومها، وكادت في أواخر الحرب أن تعطّل التصدير الإيراني، لأنّها كانت تعرف حدود قدرات طهران في لعبة التصعيد. لكن الإيرانيين تعلموا من تلك التجربة، ومن سنوات الحصار، والشيء الوحيد الأكيد في حالة التصعيد العسكري هو أن ترسانة ايران تعطيها القدرة على مسح كلّ البنى النفطية في الخليج (وهجوم السّبت يجعل ذلك خارج دائرة الشك). وفي حالة "السيناريو النووي" هذا، فإنّ ثمن المنشآت الخليجية وتأثيرها على السوق، من ناحية، أكبر بكثير من نظيرتها في ايران و، من ناحية أخرى، فإنّ ايران ــــ من بين دول الخليج ــــ هي الأقدر على البقاء والاستمرار (أو الاستمرار لفترة أطول) من دون انتاجٍ نفطيٍّ وتصدير. لهذه الأسباب كلّها، فإنّ الحرب الموسّعة لن تحصل.
اليوم، حتّى لو أراد ابن سلمان أن يستمرّ في القتال في اليمن، فإنّ ترامب سيمنعه

بومبيو، من جهته، يستخدم المفاوضات المحتملة كوسيلة للضغط، عبر القول بأنّ هجماتٍ كهذه تجري بدعمٍ وتشجيعٍ من طهران، وهذا يعني أن الأميركيين لن يجلسوا معهم على الطّاولة. غير أنّ اميركا تقيم، أصلاً، أقسى حصار دبلوماسي واقتصادي ممكن ضد ايران، وقد نقضت الاتفاق النووي. هل يعتقد بومبيو حقّاً أنّه سيجعل روحاني يذهب الى الحرس الثّوري، ويطلب منهم وقف التّعاون مع "أنصار الله"، لأنّهم يهدّدون "فرصة المفاوضات"، وأنّهم سيستمعون اليه؟
بالحديث عن ميزان القوى والاستعدادات العسكريّة، فإن هناك شيئاً يجب أن يُقال عن انكشاف أهمّ موقعٍ اقتصاديّ سعوديّ أمام هجماتٍ من هذا النّمط. لو كنت مكان حكّام الرياض، لما حاولت توجيه الغضب ضدّ مذنبٍ خارجيّ، بل بدأت بمعاقبة الجنرالات في جيشي. أثمن موقعٍ لديك وعقدة انتاج النفط في بلدك، وانت تعرف شكل التهديد، وقد حصلت هجمات مماثلة في الماضي، ولا تحميه بشبكةٍ هائلة من الدفاع الجوي، متعددة الطبقات وتعمل على مدار 24 ساعة؟ الأهداف بالطبع كثيرة ولا يمكن حمايتها كلّها، غير أنّ هذا ــــ تحديداً ــــ هو الأكثر حساسية على الإطلاق (توجد تقارير أميركية منذ عام 2006 عن مجمّع بقيق، وهشاشته، والضرر الذي قد ينتج من اخراجه عن الخدمة). أنفقت الحكومة السعودية على الدّفاع الجوي والطيران مالاً يكفي للدفاع عن سماء الاتحاد السوفياتي، ولا تقدر على حماية أهمّ مرفقٍ لديك؟ هذا يعيدنا، باختصار، الى أوّل ردّ فعلٍ لي حين استقوت حكومات الخليج على اليمن، واستسهلت أن تعلن الحرب عليه. انتم، بصراحةٍ، لستم أهل حربٍ ولا تقدرون عليها، فلماذا ترمون بأنفسكم تحت ثقالها؟

خاتمة
الصّور الأوليّة للأقمار الصناعية تظهر أنّ الأذى في مجمّع بقيق لم يكن عشوائياً: لقد تمّ استهداف وحدة معالجة النفط تحديداً، وفي عدّة مواضع (وليس معمل الطاقة مثلاً، أو الصهاريج). لقد تمّ وضع اليمنيين في موضعٍ لم يعد لديهم فيه ما يخسرونه، فأصبحوا يهددون بأن يخسر ابن سلمان كلّ شيء. هذه ليست ضربةً قد تكون أنهت حرباً فحسب، بل هي ستكون حاضرةً في الذاكرة لدى كلّ مفصلٍ قادمٍ في شؤون المنطقة، وعند كلّ نقاشٍ عن توزّع الثروة واستخدامها، ولهذا هي تغيّر "كلّ شيء".
اختتم الثلث الأول من القرن العشرين بحربٍ بين يمن الإمامة والدولة السّعودية التي كانت لا تزال في مرحلة "التوحيد". هزيمة اليمن رسمت حدود المملكة من الجنوب وخلقت واقعاً مختلفاً، وتراتبية جديدة للقوة في شبه الجزيرة. ما أصبح واضحاً اليوم هو أن اليمن لن يخرج من هذه الحرب خاسراً مهزوماً ناقص السيادة، فهذه الأمور قد استردّها اليمنيّون بقوّة ساعدهم، وهم لن يفاوضوا مجدداً من موقع الضعيف.

قلب السعودية يحترق!
| في الوقت الذي كانت فيه السلطات السعودية تواصل استعداداتها لطرح جزء من أسهم «جوهرة التاج» في بناها التحتية، شركة «أرامكو» النفطية العملاقة، في البورصة العالمية، جاءت ضربة الجيش اليمني واللجان الشعبية بعشر طائرات مسيّرة ضد معملين تابعين للشركة في محافظة بقيق وخريص شرق المملكة، لتعيد تلك العملية خطوات إلى الوراء، بفعل الاهتزاز المتوقع في ثقة المستثمرين بالشركة، التي تواجه أصلاً صعوبة في إحراز قيمة تريليونَي دولار، اللازمة لجمع مئة مليار دولار من وراء الطرح العام الأولي. الضربة، التي أطلقت عليها سلطات صنعاء تسمية «عملية توازن الردع الثانية»، بعد «عملية توازن الردع الأولى» التي استهدفت أواخر الشهر الماضي حقل الشيبة النفطي شرق السعودية أيضاً (على الحدود مع الإمارات)، تأتي لتثبّت معادلة جديدة عنوانها أن لا حصانة لأيّ منطقة حيوية في العمق السعودي، وأن اليمنيين باتت لديهم القدرة على إيلام من يشنّ عليهم العدوان منذ ما يزيد على أربع سنوات، وإلحاق خسائر جسيمة به. حقيقةٌ يُفترض، منطقياً، أن تدفع الرياض، ومن ورائها الراعي الأميركي، إلى التراجع عن سياسة المكابرة والإصرار على نطح الجدار، لصالح سياسة واقعية تحذو ابتداءً حذو الخطوات الإماراتية الأخيرة، ومن ثم تمهّد الطريق لعقد مفاوضات جادة تؤدي إلى إنهاء الحرب ورفع الحصار وإيجاد حلّ سياسي توافقي بين اليمنيين.
تكشف العملية هشاشة قدرة الدفاع السعودية على رغم كلّ ما تنفقه المملكة على عمليات التسلح

فجر أول من أمس، بدت السعودية كما لم تُرَ يوماً من قبل: ألسنة من اللهب وأعمدة من الدخان تتصاعد من أكبر منشأة لمعالجة النفط في العالم (تزيد قدرة إنتاجها على سبعة ملايين برميل يومياً، وتبعد عن الأراضي اليمنية أكثر من 1200 كيلومتر). مشاهدُ سرعان ما فاقمت وقعَها الأنباء عن اضطرار «أرامكو»، بفعل الضربة اليمنية، إلى وقف نحو نصف إجماليّ إنتاجها من النفط، أي ما يعادل 6% من الإنتاج العالمي، وبالتالي اللجوء إلى المخزون من أجل تعويض النقص في الإمدادات. هذه الفاتورة الباهظة، والتي تكشف هشاشة قدرة الدفاع السعودية على رغم كلّ ما تنفقه المملكة على عمليات التسلح، توعّدت صنعاء، الرياض، بما هو أعظم منها، مهدّدة بـ«اتساع نطاق العمليات الهجومية الجوية في أراضي العدوان ما لم يتوقف النظام السعودي عن عدوانه وحصاره» وفق ما جاء على لسان المتحدث باسم القوات المسلحة اليمنية يحيى سريع، الذي أكد أيضاً أن عملية السبت «النوعية والواسعة حققت أهدافها بدقة عالية»، وأنها «لن تكون الأخيرة».
استهداف مصافي النفط في بقيق وخريص، والتي تُعدّ الهدف السادس من بين 300 هدف أعلنتها صنعاء مطلع الربع الثاني من العام الجاري، يؤكد - على المستوى العسكري - أن القدرات اليمنية باتت في مراحل متقدمة جداً، وخصوصاً منها الطائرات المسيّرة التي يبيّن الخبراء أن حديث المسافات في شأنها ليس مهماً؛ إذ إن تقنياتها تعمل وفق نظام مغلق وغير قابل للاختراق، كما أنها تحمل في ذاكرتها خطّ سير محدداً مسبقاً وصولاً إلى هدف «نقطوي»، بحيث يصعب على الرادارات التقاط بصماتها، فضلاً عن أن خبراء المنظومات الفنية في اليمن قادرون على تضليل منظومات الدفاع السعودية التي يدير أكثريَتها أميركيون وبريطانيون. وعليه، يُتوقع، بالاعتماد على تلك التقنيات وغيرها، أن تشهد المرحلة المقبلة انتخاباً لمزيد من الأهداف النوعية والحيوية في العمق السعودي، والتي يحدث ضربها تأثيراً استنزافياً إشغالياً. أما على المستوى السياسي، فإن «أنصار الله» تبدو في موقع المفاوِض القوي الذي يملك الكثير من الأوراق، فيما خصومها مشتّتون ومنشغلون بالاقتتال (كما يجري في جنوب اليمن) وعاجزون عن حماية أراضيهم بعدما كان هدفهم مع بداية الحرب سحق الحركة اليمنية. وتلك معطيات ستجد سبيلها، حتماً، إلى طاولة أيّ مفاوضات يمكن أن تلتئم في المرحلة المقبلة، بما يجعل النتيجة لغير صالح السعودية وحلفائها.

على المقلب المضاد، بدا الارتباك واضحاً على الرياض، التي لم تتأخّر في الإقرار بالهجمات وأضرارها الاقتصادية، مُعلنةً أنها باشرت تحقيقاً لمعرفة مصدرها، في الوقت الذي كان فيه حليفها الأميركي، على لسان وزير الخارجية مايك بومبيو، يقول إنه لا دلائل على انطلاق الهجمات من اليمن، مُحمّلاً إيران المسؤولية المباشرة عنها. وهو اتهام دائماً ما يتكرر على ألسنة المسؤولين الأميركيين والسعوديين في محاولة للتهرّب من الاعتراف بحقيقة الواقع الذي بات قائماً في اليمن، الأمر الذي شدّد وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، على أنه «لن ينهي الكارثة»، معتبراً أن «القبول بمقترحاتنا وإنهاء الحوار يمكن أن يؤديا إلى ذلك». هل ستصغي السعودية إلى «النصيحة»، مثلما كانت فعلت - جزئياً - حليفتها الإمارات؟ ولي عهد المملكة، محمد بن سلمان، الذي وصف عملية بقيق وخريص بـ«العدوان»، أبلغ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أن بلاده «قادرة ومستعدة» للردّ على الهجمات، في تصريحات تعيد إلى الأذهان ما كان تبجّح به سابقاً من أن السعودية قادرة على «اجتثاث الميليشيات في أيام قليلة»، ولاحقاً من أنه «لم يعد ضدنا هناك (في اليمن) إلا فلول الحوثيين». لكن ابن سلمان يدرك جيداً أنه يَعِد بما لا يقدر عليه، وأن جلّ ما يتطلّع إليه اليوم هو مخرج «لائق» يحفظ ماء وجه المملكة، ويساعدها على الانسحاب من المستنقع الذي تتخبّط فيه، خصوصاً في ظلّ ما بات واضحاً أنه ترجمة يمنية لتسمية «عام الحسم»، سواءً بتصعيد الهجمات على المطارات والمنشآت الحيوية والقواعد الاستراتيجية السعودية، أم بالانتقال في الداخل من مربع الدفاع إلى مربع الهجوم، عبر سلسلة عمليات نوعية تمتدّ من الجنوب وصولاً إلى الحدود، وكان آخرها في جبهة كتاف، حيث أوقع الجيش واللجان جميع أفراد «لواء الوحدة» (الموالي للسعودية) وضباطه (2000 جندي وضابط) في الأسر.

الردّ بالمثل
ويُعدّ استهداف المواقع النفطية السعودية جزءاً من استراتيجية الردّ اليمنية على الحصار المفروض على هذا البلد، وتعمّد «التحالف» تضييق الخناق على صنعاء، وتصدير أزماته في المحافظات الجنوبية إليها، فضلاً عن استهداف الاستقرار التمويني في السوق اليمني. وفي هذا الإطار، أقدمت قوات «التحالف»، على مدى الأسبوعين الماضيين، ومن دون مبرر، على احتجاز 13 سفينة محمّلة بالوقود والغذاء كانت في طريقها إلى ميناء الحديدة، بعدما خضعت لآلية التفتيش الأممية في جيبوتي، وحصلت على تراخيص دخول إلى الميناء الذي يستقبل قرابة 70% من واردات اليمن الخارجية. خطوة سارعت حكومة الإنقاذ في صنعاء إلى إدانتها، محذرة الرياض من تبعات تلك الإجراءات التي تستهدف ما تبقى من استقرار اقتصادي ومعيشي للملايين من اليمنيين، ومُحمّلة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية العاملة في المجال الإنساني كامل المسؤولية عنها. ومساء الجمعة، حذرت «شركة النفط اليمنية» في صنعاء من تفاقم الوضع الإنساني بسبب استمرار «التحالف» في احتجاز ستّ سفن مشتقات نفطية، تحمل أكثر من 87 ألف طن بنزين، و42 ألف طن ديزل، ومنعها من الوصول إلى ميناء الحديدة. ويتزامن تشديد الحصار على الميناء، ومنع دخول الشحنات التجارية إليه، مع تحذير الغرف الصناعية والتجارية في صنعاء من توقف عملية الاستيراد، وإعلانها توقفها إجبارياً (جراء الانتهاكات العنصرية التي يتعرض لها التجار في المحافظات الجنوبية من قِبَل المليشيات الموالية للإمارات) عن استقبال شحنات الغذاء والدواء والوقود من ميناء عدن منذ العاشر من آب/ أغسطس.
وكان زعيم «أنصار الله»، عبد الملك الحوثي، حذر السعودية، مراراً، من أن الحركة لن تسمح بأن يموت الشعب اليمني جوعاً، ولن تلتزم الصمت إزاء سياسة التجويع التي يمارسها «التحالف». ونصح الحوثي، في أكثر من خطاب، الشركات الدولية ورؤوس الأموال الأجنبية بعدم الاستثمار في السعودية، والابتعاد عن الشركات النفطية وحقول النفط في المملكة، قبل أن يتعهّد عقب استهداف الطائرات المسيّرة حقل الشيبة بـ«استهداف الضرع الحلوب حتى يجفّ»، في إشارة إلى أن حقول النفط كافة أصبحت اهدافاً لسلاح الجو المسيّر.
تم نسخ الرابط