الأربعاء 08 أيار 2024 الموافق 29 شوال 1445
آخر الأخبار

شمال سوريا: الفوضى «الجهاديّة» على الأبواب

ياصور
الفوضى هي التربة الخصبة لعمل «الجهاديين». هذه هي الحقيقة التي دأب منظّرو «الجهاد» وقادته منذ عقود على تأكيدها، وأثبتت مجريات الحدث السوري دقّتها. وعلى رغم أن «الرايات السود» ما زالت حاضرة في سوريا، فإن فعاليتها قد انخفضت بفعل تضييق رقع انتشارها، وانحسار الفوضى عن مناطق واسعة من الجغرافيا السورية. اليوم، تنفتح الاحتمالات من جديد على بدء فصل إضافي من الفوضى، بما يعنيه من فعالية «جهادية» محتملة.

سُجّلت، أمس، أول حالة «تمرّد جهادي» جماعية عقب انطلاق عمليات الغزو التركي المسمّاة «نبع السلام». وتناقلت مصادر إعلامية محسوبة على «قوات سوريا الديمقراطية/ قسد» مقاطع مصورة لحالة التمرد التي نفّذتها «نساء داعش» المحتجزات في قسم «المهاجرات» في مخيم الهول في الحسكة. بطبيعة الحال، لا يمكن عدّ الحادثة أمراً مستغرباً، إلا بالنظر إلى توقيتها الذي جاء أبكر من المتوقع. وبات معروفاً أن «قسد» ما فتِئَت تحذّر من أن أي اعتداء تركي سيكون بمثابة تقويض لجهود محاربة «داعش»، مع الإشارة خصوصاً إلى مخيمات اعتقال «الجهاديين» الواقعة تحت سيطرتها، والمحتضِنة آلافاً من نساء التنظيم وأطفاله، علاوة على عدد من مقاتليه القدامى. لم تنجح التحذيرات في دفع الدول الأوروبية إلى اتخاذ موقف حاسم من الهجوم التركي، لا سيما في ظلّ الموقف الأميركي الرافض لتبنّي مشكلة «الجهاديين الأوروبيين»، وفقاً لما كشفته مواقف الرئيس الأميركي في هذا الشأن، إذ اعتبر أن «مسؤولية مخيمات أسرى داعش باتت على عاتق تركيا».

«قسد» والملف «الذهبي»
كانت «قسد» قد راهنت طويلاً على إمكانية استخدام هذه الورقة، لنيل شيء من «الشرعنة» الدولية لها، بوصفها «كياناً حاكماً». على أن مقترحات إجراء محاكمات دولية داخل المناطق الخاضعة لسيطرة «قسد»، بالتنسيق مع «الإدارة الذاتية»، لم تجد طريقها إلى الواقع. أحد الأسئلة الخطيرة التي تطرح نفسها بقوة اليوم يرتبط بمصير «مخيمات الجهاديين»، ومدى قدرة «قسد» على الذهاب بعيداً عبر تسهيل هروب المحتجزين. وتفتح حساسية هذا الملف الباب أمام احتمالات عقد «صفقات قذرة» بين «جهاديي داعش» المعتقلين، وبين هذا الطرف أو ذاك. وليست القدرة على عقد هذا النوع من الصفقات مقتصرة على «قسد»، بل ينسحب الأمر على لاعبين كثُر، قادرين على استثمار المجريات لإعادة خلط الأوراق «الجهادية» في سوريا، كما في العراق.

لا يزال «داعش» يمتلك القدرة على شنّ بعض العمليات «الانغماسية» الخاطفة

ولا يزال «داعش» يمتلك القدرة على شنّ بعض العمليات «الانغماسية» الخاطفة، وتنفيذ بعض الكمائن، لا سيما في شرقيّ الفرات حيث ذاب المئات من عناصره (الأمر عينه ينطبق على العراق). وكان العدد الأخير من صحيفة «النبأ» الأسبوعية، الصادر عن التنظيم المتطرف (صدر العدد أول من أمس، الخميس)، قد تحدث عن «عملية انغماسية ومداهمة»، نفذها «جنود الخليفة» في الرقة. وأشار العدد المذكور إلى أن التنظيم قد نفّذ 20 عملية في سوريا. أما افتتاحية العدد ما قبل الأخير (الخميس 4 تشرين الأول/ أكتوبر) فكانت قد أُفردت للحديث عن «مرتدّي الصحوات»، في إشارة إلى مقاتلي المجموعات المسلحة كافة (وخاصة المحسوبة على أنقرة). مُهرت الافتتاحية بعنوان «الصيف أضعتم اللبن يا مرتدّي الصحوات» (مَثَل قديم كناية عن إضاعة الخيرات بسبب الطمع)، وأشارت إلى «إصدار مرئي» عدّته «أول ظهور إعلامي لجنود الدولة الإسلامية بعد حملة الباغوز»، وفيه يعلن عدد من «جنود الخلافة في الشام» أنهم «يجدّدون البيعة» لزعيم التنظيم، أبو بكر البغدادي، ويعاهدونه على «استمرار الجهاد لإقامة الدين». وإذا ما رُبط هذا النشاط الإعلامي بتأكيدات متتالية لعدد من مسؤولي التنظيم «الاستعداد لجولات أخرى من الجهاد الشامي»، وبتحذيرات صدرت عن جهات عديدة، بعضها أميركي رسمي، من قدرة التنظيم على «العودة»، فإن النتيجة قد تكون فصلاً «داعشياً» دموياً جديداً بالفعل.

«الصفقات القذرة» تقترب؟
اللافت أن حديث «الصفقات» المحتملة انطلق في الوقت عينه في بقعة جغرافية سورية أخرى، وهي طبعاً محافظة إدلب. وفي خلال الأيام القليلة الماضية، تناقلت مصادر عديدة أنباءً عن «مفاوضات» بين عناصر من «هيئة تحرير الشام» وآخرين من تنظيمات «جهادية» أخرى من جهة، وأنقرة من جهة ثانية. مضمون المفاوضات يتمحور حول «ترانسفير» تركي، يسهّل انضمام مجموعات «نخبة» من «الجهاديين» إلى مجموعات «الجيش الوطني» الذي يقاتل تحت راية أنقرة ضدّ «قسد». في واقع الأمر، يُستبعد إقدام أنقرة على خطوة من هذا النوع، لا سيما أن المعارك لا تزال في بواكيرها، وأن مؤشرات القوة على الأرض تصبّ في مصلحتها. غير أن تزايد ترويج الإشاعات، على الجانبين، يضع على الطاولة ملفاً خطيراً، عنوانه العريض «الفوضى الجهادية».
وتمتلئ كواليس إدلب بعوامل كافية لتصدير الفوضى، وعلى رأسها الخلافات والتجاذبات في صفوف «المهاجرين» (وهم «الجهاديون» غير السوريين). وفي خلال الأسبوعين الأخيرين، صدرت بيانات عديدة عن غير جهة «جهادية» تتناول موضوع «المهاجرين»، يؤكد بعضها «العلاقة الأخوية» بين هؤلاء وبين «هيئة تحرير الشام»، فيما تلمّح أخرى إلى تفاقم «العداء بين الطرفين». اللافت أيضاً أن بعض المرجعيات «الشرعية» قد أعادت إلى التداول أخيراً الحديث عن «ضرورة تشكيل كيان جامع يضمّ كل المهاجرين»، حتى ولو كان هذا الكيان «تنسيقياً» فحسب. وتبدي مصادر «جهادية» محسوبة على «المهاجرين» مخاوف من قيام زعيم «هيئة تحرير الشام»، أبو محمد الجولاني، بعقد «صفقات» تسهّل النيل منهم، فيما تستبعد مصادر أخرى إقدام الجولاني على خطوة من هذا النوع، بسبب احتمال حاجته إلى «مؤازرة جهادية» حال اندلاع معركة تلوح في الأفق. ووسط هذه الأجواء، تشير معلومات مؤكدة إلى ارتفاع في وتيرة تهريب البشر من إدلب إلى خارجها (وفي مختلف الاتجاهات). وتُدار تلك العمليات من قِبَل عناصر محسوبين على «تحرير الشام» لقاء مبالغ مادية باهظة، الأمر الذي يمكن إدراجه في خانة «تحقيق المكاسب المادية». غير أن بعض الأقاويل تشير إلى احتمال استغلال المنافذ وخطوط التهريب المتاحة، لتصدير «الجهاديين» إلى شتّى الاتجاهات.

أكثر من ألف «جهادي» في منطقة العمليات
نقلت وكالة «رويترز»، أمس، عن مسؤولَين أمنيَّين أن تركيا تعتقد بوجود أكثر من ألفٍ من مقاتلي «داعش» قيد الاحتجاز في المنطقة التي يستهدف جيشها السيطرة عليها في شمال شرق سوريا، معظمهم «جهاديون» أجانب من أوروبا والولايات المتحدة. وقال أحد المسؤولَين، مشترطاً عدم نشر اسمه، إنه «يقدّر أن هناك ما يقرب من 1200 إلى 1500 مسلّح من داعش في مبانٍ تُستخدم كسجون في داخل المنطقة التي تنفذ فيها تركيا العملية». وأشار المسؤول إلى أن تركيا لم تتلقّ إخطاراً رسمياً بشيء، لكنه تحدث عن معلومات من مصادر مختلفة في الميدان، موضحاً «أن من بين المقاتلين المحتجزين أعداداً كبيرة من الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وبلجيكا». وأضاف أنه «لن يتم إطلاق سراح المقاتلين الإرهابيين، ومع ذلك ستكون هناك مبادرات أيضاً لإعادتهم إلى بلادهم الأصلية». في غضون ذلك، أعلنت «قسد»، أمس، أن خمسة معتقلين من «داعش» فرّوا من أحد السجون التي تديرها بعد سقوط قذائف تركية في جواره في مدينة القامشلي في شمال شرق سوريا.

واشنطن تلوّح بعقوبات «شديدة جداً» على تركيا
واصل الجيش التركي، مدعوماً بفصائل ما يُسمّى «الجيش الوطني»، محاولات التقدم البري في منطقتَي تل أبيض ورأس العين في ريفَي الحسكة والرقة، مع استمرار القصف الجوي والمدفعي على مناطق عدة من الشريط الحدودي الشمالي لسوريا. وفي وقت تحدثت فيه مصادر إعلامية مقربة من «الجيش الوطني» عن السيطرة على قرى العزيزية وأصفر نجار وتل حلف وصوامع الحبوب وحاجز الدويرة في رأس العين، وكذلك قرى الكنيطرة والناصرية ودويرة وحلاوة في تل أبيض، نفى مصدر كردي لـ«الأخبار» وجود «أيّ تقدم بري للاحتلال التركي ومرتزقته»، واصفاً الوضع الميداني بأنه «ما بين كرّ وفرّ»، مؤكداً أن «قواتنا تستنزف القوات المهاجمة وتقتل منهم الكثير».

يأتي ذلك مع استمرار القصف المدفعي والجوي المكثف على مناطق في رأس العين وتل أبيض والمالكية والقامشلي. ووفقاً لمصادر «قسد»، فإن المدفعية التركية استهدفت سجناً يضمّ معتقلين خطيرين من «داعش» غرب القامشلي. كما استهدف القصف المدفعي حي الزيتونية شمال القامشلي، ما أدى إلى مقتل مدنيَّين اثنين، توازياً مع مصرع ثلاثة آخرين جراء قصف طاول آليات لمدنيين في قرية البديع في ريف تل أبيض. وعلى مستوى القوات المقاتِلة، تحدثت «قسد»، في بيان، عن «مقتل 262 من القوات المهاجِمة»، و«فقدان 22 مقاتلاً من قواتنا خلال الـ 48 ساعة الماضية من الهجمات». في المقابل، أعلن مكتب الحاكم المحلي في محافظة ماردين التركية أن ثمانية مدنيين قُتلوا، فيما أصيب 35 آخرون، بقصف كردي بقذائف «هاون» استهدف بلدة نصيبين في المحافظة. وفي بلدة سوروش قبالة كوباني السورية، قُتل شخصان أيضاً جراء سقوط قذيفة على منزلهما، وفق ما أفادت به وكالة «الأناضول». وتحدثت الوكالة عن مقتل جنديين وإصابة ثلاثة أمس بقصف كردي لقاعدة عسكرية تركية قرب مدينة أعزاز في شمال غرب سوريا، في وقت أعلنت فيه وزارة الدفاع التركية مصرع جندي الجمعة، وقَبْله واحد الخميس، في إطار العملية العسكرية الدائرة في شرقي الفرات، ليرتفع بذلك عدد العسكريين الأتراك القتلى منذ بدء العملية إلى أربعة.

دعا وزير الدفاع الأميركي مارك إسبر تركيا إلى العودة إلى «الآليّة الأمنيّة»

على المستوى السياسي، دعا وزير الدفاع الأميركي، مارك إسبر، خلال مؤتمر صحافي في «البنتاغون»، تركيا، إلى العودة إلى «الآلية الأمنية»، مؤكداً أنهم «طلبوا من تركيا إيقاف العملية». ورأى إسبر أن «بالإمكان التوصل إلى حلّ يفصل بين القوات التركية والأكراد»، محذراً من أن «الغزو التركي لشمال وشرق سوريا يضع علاقتنا مع تركيا على المحك». وأشار إلى أنه «ليس هناك أيّ مؤشرات لنيات تركية لإيقاف العملية»، لافتاً إلى أن «قسد لا تزال تحرس معتقلات داعش وتسيطر عليها». وحول انسحاب الأميركيين من الشريط الحدودي، قال الوزير الأميركي إن «قواتنا أعادت توزعها في سوريا لضمان عدم وقوع اشتباكات مع القوات التركية». وهدّد وزير الخزانة الأميركي، ستيفن منوتشين، بدوره، بأن الولايات المتحدة قادرة على «شلّ» الاقتصاد التركي بـ«عقوبات شديدة جداً إذا اضطررنا إلى ذلك»، معلِناً في مؤتمر صحافي أن «الرئيس دونالد ترامب يعتزم توقيع مرسوم لردع تركيا عن مواصلة هجومها. من جهته، ذكر رئيس هيئة الأركان في الجيش الأميركي، مارك ميلي، أن «معلوماتنا عن العملية التركية محدودة»، مُجدِّداً رغبة واشنطن في «وجود منطقة آمنة تفصل بين الكرد وتركيا»، مستدركاً بأن قواتهم «ليست موجودة في سوريا من أجل حلّ الخلاف الطويل بين الطرفين».
في المقابل، رد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، مساء أمس، على سيل الانتقادات التي تلقّتها أنقرة على خلفية عمليتها العسكرية في شرق الفرات، قائلاً إنه «إذا عجزت دولة ما عن منع التنظيمات الإرهابية من مهاجمتنا، فعلينا القيام بذلك بأنفسنا»، معتبراً أن «الغرب يكيل بمكيالين في ما يتعلق بتصنيف التنظيمات الإرهابية التي تستهدف أمن ‎تركيا». وأكد «(أننا) لن نوقف عملياتنا مهما قيل، وننتظر من جميع أصدقائنا دعمها»، مضيفاً «(إننا) لن نتراجع... سنواصل هذه المعركة حتى يبتعد جميع الإرهبيين مسافة 32 كلم عن حدودنا، وهو الحدّ الذي تحدثت عنه مع ترامب نفسه».

تجدّد مأساة النزوح: الشريط الحدودي يُفَرَّغ من سكانه
ولّدت الهجمات التركية على الشريط الحدودي الشمالي مع سوريا موجة نزوح كبيرة، في ظلّ تضرّر منشآت حيوية وانقطاع مياه الشرب عن أكثر من نصف مليون مدني. وتُعدّ موجة النزوح هذه، والتي يُتوقع أن تطاول ما يزيد عن مليون مواطن، نتاجاً للسعي التركي إلى تهجير أهل المنطقة الحدودية، وإحلال اللاجئين السوريين من تركيا وأوروبا بدلاً منهم

الحسكة | على عتبة «مدرسة سعد بن أبي وقاص» في مدينة الحسكة، يجلس العم محمود ووجهه مثقلٌ بالهموم والأوجاع، بعدما باتت المدرسة منزله الجديد، إثر تحوّل مدينته الدرباسية إلى ساحة للقصف والقتال. يرفض الرجل الخوض في تفاصيل مراحل نزوحه، وحتى الحديث بأي شيء، ويكتفي بالدموع التي تسيل على خدّيه. صوتٌ قريبٌ يأتينا من الجالسين إلى جانبه: «دعه وشأنه، دموع الرجال تحكي هموماً كالجبال»، بينما تصرخ سيدة مُسنّة تُدعى فهيمة، مُوجِّهةً الحديث إلينا: «اكتبوا باعتنا أميركا، وتركتنا لوحدنا»، وتتابع المسنّة بالقول: «هُجّرنا، وقُصفنا، وسيحتلّ المسلحون منازلنا من جديد».

على مقعد دراسي نُقل إلى باحة المدرسة، تجلس مجموعة من شباب مدينة رأس العين. يقول خالد (اسم مستعار)، متحدثاً بصوت منخفض، إن «ما يحصل سببه قسد! لقد أخطأت حساباتها، وجعلت مناطقنا تواجه مصير التدمير». ويضيف: «أملنا الوحيد هو بالجيش السوري، أن يحسم الموقف، لأنه لا استقرار لمنطقتنا من دون عودتها إلى الدولة السورية». أما الشابة ريم، ابنة رأس العين أيضاً، والتي كانت تلاعِب أرنباً أبيض اللون في باحة مركز إيواء للنازحين افتُتح أخيراً، فتشير إلى أنها «حرصت على إخراج الأرنب معها، لأن من يقتل الإنسان لن تهمّه حياة الحيوان»، وتتابع بانفعال: «لا نستطيع التعايش مع هؤلاء. هم وحوش (...) وحوش سيقتلوننا لو بقينا». تتذكّر الفتاة ما فعله «الجيش الحر» في مدينة رأس العين التي دخلها في عام 2013، وتعلّق: «أنا متأكدة، سيكررون إجرامهم ومجازرهم».
يكتظّ الطريق الذي يربط مدينة رأس العين بالحسكة بمئات السيارات المتنوعة التي تنقل آلاف الأسر من مدينة رأس العين وقراها، باتجاه مدينة الحسكة. تقف بعض السيارات لتختار بلدة تل تمر مقرّاً لنزوحها، بينما يكمل آخرون طريقهم نحو أقارب لهم في قرى أخرى في الأرياف الجنوبية لمدينة رأس العين وصولاً إلى مدينة الحسكة. محمود، النازح من قرية تل تشرين، يبيت في الطريق العام القريب من تل تمر على أمل أن يستطيع العودة إلى منزله، ولو لإخراج حاجاته الأساسية فقط. يقول محمود لـ«الأخبار»: «شدة القصف الذي طاول مدينة الدرباسية، وسقوط قذائف في قريتنا، دفعانا للمغادرة بلباسنا فقط»، مضيفاً أن «المدنيين يخشون من نهب وسرقة ممتلكاتهم، لكون لهم تجارب سابقة مع ذات الفصائل في عام 2013».

دفع اليومان الأولان من الهجوم آلاف المدنيين إلى مغادرة مدنهم وبلداتهم

دفع اليومان الأولان من الهجوم التركي آلاف المدنيين إلى مغادرة مدنهم وبلداتهم في الشريط الحدودي، الذي يمتدّ على أكثر من 480 كم، وتنتشر فيه 10 تجمعات سكنية كبرى. ويتركّز النزوح في مدينتَي تل أبيض ورأس العين اللتين يقطنهما أكثر من 200 ألف مدني، بالإضافة إلى القرى الحدودية في ريف الرقة، وريفَي الدرباسية ورأس العين في الحسكة. وتنبّه منظمات دولية معنية بالشأن الإنساني إلى أن الهجوم قد يتسبب بموجة نزوح هي الأكبر منذ بداية الحرب في سوريا. وفي هذا السياق، تفيد مصادر كردية تعمل في الجانب الإغاثي، «الأخبار»، بأن «أكثر من 200 ألف نزحوا في الـ48 ساعة الأولى لبدء الغزو التركي»، لافتة إلى أن«أعداد النازحين تتزايد مع استمرار القصف وارتفاع وتيرته، وامتداده إلى مناطق جغرافية واسعة». وتحذر المصادر من كارثة إنسانية ستؤدي إلى «نزوح أكثر من مليون مدني من سكان الشريط الحدودي من المالكية وحتى عين العرب في ريف حلب الشمالي». من جهته، يؤكد محافظ الحسكة جايز الموسى، في حديث إلى «الأخبار»، أن «المؤسسات الحكومية المعنية بالشأن الصحي والإنساني، مع الهلال الأحمر، استنفرت كل الفرق لتلبية احتياجات السكان الفارّين من منازلهم»، متابعاً أن «ورشات المياه والكهرباء والاتصالات جاهزة على مدار الساعة للتدخل، وضمان استمرار تقديم الخدمات الحكومية».

أزمة عطش في الأفق
شهد اليوم الثاني من الهجوم التركي قصفاً مركّزاً على محطة الكهرباء المغذّية لآبار مياه علوك، والتي تعتبر المصدر المائي الوحيد لأكثر من نصف مليون مدني في مدينة الحسكة والقرى والأرياف التابعة لها. وأدى الاستهداف إلى خروج آبار المياه عن العمل، وانقطاع مياه الشرب، ما يهدّد بأزمة مياه حقيقية، في ظلّ عدم وجود مصدر بديل لمياه الشفة. وفي هذا السياق، يقول مصدر في مديرية مياه الحسكة لـ«الأخبار» إن «الهلال الأحمر السوري، بالتعاون مع منظمات دولية، يعمل على إيجاد آلية لإيصال ورشات الصيانة إلى المحطة وتشغيلها، وإعادة ضخّ مياه الشرب من جديد».

فوزة يوسف: أميركا أعطت الضوء الأخضر للهجوم التركي
لن ينجح صخب التصريحات والمواقف الطنّانة الصادرة في الولايات المتحدة، والمُحذِّرة تركيا من مغبة «التمادي» في حربها على الحركة الكردية، أو تلك التي تعلن اعتزامها فرض عقوبات عليها من خلال الكونغرس، في حجب الحقيقة الساطعة أمام القاصي والداني، وهي أن «الديمقراطية العريقة» الأميركية خانت الأكراد مرة جديدة. لم يكن القرار الأميركي بالانسحاب من الشمال السوري، والذي فتح الباب أمام الهجوم التركي، مفاجئاً، على الرغم من الذهول الذي سيطر على الكثير من اللاعبين والمراقبين لما سيترتب على هذه الخيانة من نتائج ومفاعيل على الأكراد وتركيا والصراع الدائر في سوريا. فوزة يوسف، القيادية في «حركة المجتمع الديمقراطي»، والرئيسة المشتركة السابقة لما سُمِّي «الهيئة التنفيذية لإقليم شمال سوريا»، ترى أن الخيارات كانت أصلاً محدودة جداً أمام الحركة الكردية، وأنه لم يكن متاحاً لها سوى التحالف مع الولايات المتحدة، على الرغم من إدراكها، نظرياً على الأقل، أن مصالح الأخيرة كانت ستُفضي إلى فكّه في أي لحظة. وهي تعتبر، في مقابلة مع «الأخبار»، أن الهجوم التركي الحالي على المناطق الخاضعة لسيطرة «قسد» يندرج في إطار مشروع طويل الأمد للسيطرة على سوريا بأكملها، واصفةً دعوة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، إلى حوار سوري - كردي - تركي بالإيجابية، لكن المطلوب هو الإسراع في ترجمتها عملياً لأن التطورات المتلاحقة قد تجعلها مستحيلة.
ورداً على سؤال حول إمكانية أن يُشجع الهجوم التركي الحركة الكردية على مبادرة سياسية تجاه دمشق، تقول فوزة يوسف: «أكّدنا دائماً كقوى سياسية وكإدارة ذاتية أن القضايا الخلافية في سوريا يجب أن يتمّ حلها بين السوريين. لذلك، وقبل الهجوم التركي، عرضنا على دمشق خارطة طريق منذ سنة لنتجنّب تدخل الدول الخارجية. لكن في الحقيقة، دمشق تهرّبت دائماً من الحوار الجدي. وبالرغم من أنه طلبنا منهم العمل المشترك للوقوف في وجه الاحتلال التركي، لكنهم لم يستجيبوا. تصريح نائب وزير الخارجية السوري البارحة (أول من أمس)، والذي يقول فيه إن «دمشق لن تتحاور مع القوى الانفصالية»، يوضح أنها ما زالت بعيدة عن استيعاب الخطر الذي يحدق بسوريا . فتركيا لن تقف عند حدود 30 كيلومتراً كما تدّعي، لأنها تريد أن تُحوِّل سوريا إلى ولاية تركية. أردوغان يريد أن يكون له الدور المصيري في المستقبل السياسي للبلاد، وهدفه فتح خط حتى إدلب، وبالتالي تقسيم سوريا. لم يتراجع عن رغبته في أن يصلّي في الجامع الأموي كما صرّح في بداية الحراك الشعبي السوري. وعلى الرغم من مواقفنا الوطنية والديمقراطية الثابتة خلال الثماني سنوات الماضية، بقيت الحكومة السورية رافضة للتغيير، ومصرّة على سياساتها الإقصائية والتهميشية للهويات الإثنية والثقافية، والتي قد تؤدي في حال استمرارها إلى تقسيم سوريا».

ينبغي عدم إضاعة الوقت لأن أردوغان مستعجل، ويريد أن يغير الوقائع جذرياً على الأرض

الولايات المتحدة متواطئة عملياً مع الهجوم التركي، فيما روسيا وإيران قد تستطيعان المساعدة على إيجاد مخرج من الأزمة الحالية. لا شكّ لدى يوسف في أن «الولايات المتحدة هي التي أعطت الضوء الأخضر للاجتياح التركي. لكن، وعلى الرغم من تواصلنا مع الروس، إلا أنهم لم يبدوا موقفاً واضحاً من هذا الهجوم، وما صدر عن مُمثِّلهم في اجتماع مجلس الأمن يؤكد أنهم هم أيضاً غير مبالين وغير مهتمين بنتائج هذا الهجوم على الأراضي السورية. تصريح السيد لافروف بخصوص مبادرة الحوار بين دمشق وتركيا والكرد كان مُهماً، ولكن يصعب التكهّن إلى أي حدّ ستتم ترجمته عملياً. إننا كقوى سياسية وكإدارة ذاتية نُقدّر أهمية هذا التصريح، ولكن ينبغي عدم إضاعة الوقت لأن أردوغان مستعجل، ويريد أن يغير الوقائع جذرياً على الأرض. إننا نرحب بكل مبادرة تساهم في إيقاف هذا الجنون وهذه الكارثة».
الخطة التركية التي تم إعدادها لمدة ستة أشهر تتضمن ثلاث مراحل، وقد تكون لها في حال نجاحها تداعيات كبرى على الواقع السياسي والعسكري وحتى الديموغرافي في منطقة الشمال السوري. وفي هذا الإطار، تجزم القيادية في «حركة المجتمع الديمقراطي» أن «هدف أردوغان هو اقتطاع أراضٍ جديدة من سوريا، وتحقيق تغيير ديموغرافي في المنطقة كما فعل في عفرين، وافتعال اقتتال عربي - كردي بمشاركة مرتزقته ممّا يُسمّى بدرع الفرات، وإنقاذ داعش وإخراج عناصرها من السجون، واستخدامهم كسيف مسلّط على الدول. إننا سنقاوم بالطبع، لأننا أمام حرب إبادة، وهي قضية وجود بالنسبة إلينا. سنبذل بموازاة ذلك جهوداً دبلوماسية من أجل إحباط هذه المؤامرة التي تستهدف مستقبلنا كشعوب وسوريين».
ولكن ما حدث كان متوقعاً، لأن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أعلن مرتين عزمه الانسحاب من سوريا خلال السنة الماضية، فضلاً عن خروج جميع العناصر المعترضة على ذلك من الإدارة الأميركية. ألم يكن هذا الأمر كافياً لكي يحفّز على السعي إلى إيجاد بديل عن حليف لا يمكن الاعتماد عليه؟ «إننا انتهجنا سياسة الخط الثالث، وكنا على علاقة مع جميع الأطراف لأننا ضد التحول إلى أداة لأجندات خارجية، واعتمدنا مبدأ القوة الذاتية. لكن مصالح الدول هي التي تحكم علاقاتها. وليس كلّ ما نرغب فيه يتحقق. علاقاتنا مع أميركا بدأت بالتحالف ضد داعش. روسيا مثلاً لم تتحالف معنا في ذاك الوقت مع أننا طلبنا مساعدتها. لو استجابت لطلبنا، لكان الوضع مختلفاً اليوم. في النهاية أودّ القول إن أردوغان يشكل تهديداً ليس لسوريا فحسب، بل هو يُصدّر الإرهاب في جميع الاتجاهات. عدم انسحابه حتى الآن من مدينة بعشيقة في العراق، ودعمه بالسلاح الفصائل الإرهابية في ليبيا، وغيرهما من السياسات، جميعها شواهد تؤكد أنه توسُّعي، ويريد أن يهيمن على المنطقة. لذلك، نحن الكرد والعرب يجب أن نؤسّس استراتيجية مشتركة لمواجهة هذا العدوان، وإلا فلن نخلّص أنفسنا من كوارث سياسية وإنسانية تكون لها تداعيات على مدى قرون»، تختم يوسف.
تم نسخ الرابط