أقوال شاهد إثبات ................... بقلم الاستاذة هيام فرج
المصدر : الاستاذة هيام فرج تاريخ النشر : 13-05-2022 12
نادى حاجب المحكمة بأعلى صوته : القضية 2022 , شاهد الاثبات الأول .
تقدم الشاهد على مهله , يتطلع ذات يمين , وذات يسار بعينين يشع منهما مزيج من الخوف والقلق .
خاطبه القاضي : اقترب قليلا , ما اسمك ؟
رد مرتجفا" : اسمي مواطن
- مهنتك ؟
- طاولة الاجتماعات
- سنك ؟
- ثلاثون سنة
- قل : أقسم بالله ألا أقول الا الحق
- أقسم بالله ألا أقول الا الحق
- احكي للمحكمة كل ما تعرف عن القضية .
ارتجف صوته مجددا" : سيدي القاضي , لا أعرف الا القليل والا الخير . طلبوا مني أن اكون طاولة اجتماعات وأن يجتمعوا من حولي كلما اقتضت الحاجة , لمناقشة شأن يتعلق بالامن القومي , أو بمؤامرة تهدد كيانه, او اي شأن صغير يمس حياة المواطن أو رفاهيته . وبالطبع وافقت في الحال , فهل هناك أجل من هذا العمل النبيل؟ وهل هناك أجمل من أن أتحول الى طاولة تصاغ عليها الاتفاقيات والعقود التي لا بد وأن تدخل يوما" التاريخ ؟
كانت الأمور تبدو لي جيدة لأنهم كانوا يتقاتلون ويتناحرون من حولي ولأجل مصلحتي رغم ما كان يصيبني من كدمات وضربات وخضات قلب كثيرة جراء خبطاتهم المتكررة على جسدي , وبالطبع كنت أصبر صبرا" جميلا". ألم أقبل أن أتحول الى طاولة للاجتماعات ؟ مع ما يرافق هذا المنصب من تحديات وتضحيات ؟ بل أكثر من ذلك , لم ارتضي الا أن أكون من خشب السنديان , طاولة صلبة تتحمل ضربات قبضاتهم على هذا الجسد . وها أنا أتحمل وأتجاهل منذ ثلاثين سنة حتى أصبحت محبطا" , منهكا".
في الأيام العادية , عندما يكون الاجتماع هادئا" , والجميع تغمرهم المحبة والوئام , كنت أعاني من همساتهم الغير مسموعة , وهمهماتهم الغير واضحة , ولم أكن أفهم لماذا لا يتقاتلون ؟ أما من مصلحة للمواطن اليوم ؟ على كل حال , صحيح , في تلك الأيام لم يعذبوني بخبطاتهم على جسدي , لكنهم كان يحرقونه بسخونة أكواب الشاي والقهوة , ويلسعونني ببرودة عصائرهم –رغم أن ثلاجتي في بيتي تحولت لخزانة , فالكهرباء مقطوعة دائما عني , وصاحب المولد قطع عني الاشتراك لأن فاتورته أصبحت أضعاف ما أجني – وكانوا يمطرونني بفتافيت البسكويت الأجنبي الغالي الذي كانوا يلتهمونه بجوع عظيم – وأنا عاجز عن شراءمجرد كيلو بندورة -. جربت مرة أن ألم بعض الفتافيت بلساني عسى أن أتذوق طعمه لكنني لم أستطع لشعوري بالقرف لأنها بالمجمل كانت فتافيت متطايرة من أفواههم الكبيرة والملآنة وهم يتفتفون لعابهم أثناء أحاديثهم الهامسة وقهقهاتهم الخبيثة .
صدقني يا سيدي القاضي كل هذا لم يزعجني , بل ربما لم يؤلمني , بقدر ما كانت تلك الشفطات التي كانوا يشفطونها من أكوابهم تزعزع بدني , كنت أشعر أنهم يشفطون دمي, ويتلذذون بلحس شفاههم بعد كل شفطة . وكانت أصوات جرعاتهم تكتم أنفاسي وتضيق صدري, الا أنني كنت أذكر نفسي دائما بأنهم يجتمعون من أجل مصلحتي , فلم أستطع أن أكون الا مواطنا" صالحا" وشريفا", هكذا .. هم علموني .
عندما وقعت الكارثة الكبرى يا سيدي اجتمعوا حولي مجددا" يتدارسون كيفية الخروج من الأزمة , تنفست الصعداء , ولمت نفسي أشد ملامة على كل ما كان يدور في ذهني من شكوك , استغفرت ربي , وتذكرت أن بعض الظن إثما", واستعددت جيدا" لسماع طروحاتهم , لكنني لم أسمع شيئا" اذ عادت خبطات قبضاتهم تضرب جسدي , والاتهامات تلقى ذات يمين وذات شمال, وسخونة أكوابهم تحرقني , وتفتفاتهم علي تشعرني بالخزي والعار .وأحيانا" كثيرة كانوا يهجرونني لأشهر طويلة, جراء زعل بسيط كزعل العشاق , فيتراكم على سطحي الغبار وأصبح مجهولة , منسية , الى أن يحل السلام بينهم مجددا" فأعود الى دوامة ...عذاباتي .
ولأنني أقسمت الا أقول الا الحق , فلا بد لي من أن أشهد , أن نواياهم طيبة , وأنهم وعدوني بأنهم سيعملون على رفاهيتي وحقوقي ,كما حقوق الجميع , لكن الوقت كان ضيقا" , ثلاثون سنة كما تعرف وقت حقير لمعالجة القضايا الكبرى والجوهرية , فلا بد من فرصة أخرى .
هذا كل ما لدي يا حضرة القاضي , والآن هل تسمح لي بالانصراف , أريد أن أسرع , قبل أن يغلق الصندوق , فانهم يعولون علي ...لأمنحهم هذه الفرصة الأخرى ... يتمنونها ثلاثون سنة أخرى ...ليجتمعوا علي ...وأبقى أنا مجرد ... طاولة للاجتماعات .

   

اخر الاخبار