أولادنا ليسوا لنا ................... بقلم الاستاذة هيام فرج
تاريخ النشر : 29-05-2022 12
منذ أن تلقينا أنا وزوجي العزيزدعوة للسفر لقضاء عطلة لدى أصدقائنا في الخارج , وما ان أبدينا النية لقبول هذه الدعوة , حتى انقلب نظام البيت رأسا" على عقب , وانقلب كياني كأم ستبتعد لفترة عن أولادها , فأمضيت الوقت بين سعادتي الطفولية للسفر والتعرف على بلد جديد والانخراط بتجربة جديدة , وقضاء بعض الوقت حرة بلا مسؤوليات, وبين قلقي من تركي للأولاد يتدبرون أمرهم لوحدهم على الرغم من بلوغهم سنا" تسمح لي بتركهم يعتمدون على أنفسهم , ورغم وجود جدهم وجدتهم في المبنى ذات الذي نقيم فيه , بل في الشقة أسفل شقتنا مباشرة , وهما نعم المعين وقت الحاجة .الا أنني لم أستطع السيطرة على مسلسل الأسئلة الذي يدور في رأسي .

كيف لي ان اترك الاولاد لعشرة أيام ؟ من سيوقظهم في الصباح الباكر للذهاب الى مدارسهم ؟ من سيرعى شؤونهم ؟ من سيتابعهم ؟ من سيحضر طعامهم ويغسل ثيابهم ويهتم بأشيائهم ؟ كيف سأترك البيت ؟ ومن سيحرص على نظامه ؟ بل ماذا لو انهارت أنظمته وقوانينه ؟ وماذا لو ... ؟ وماذا لو... ؟ أسئلة تبدو لا نهاية لها .

كنت أعقد الاجتماعات الدورية مع الاولاد , أذكرهم بواجباتهم , وبضرورة المحافظة على نظام البيت , وعلى ضرورة تحمل المسؤولية في فترة غيابي مع والدهم , اضافة الى بعض القوانين الجديدة التي تتناسب مع الحدث الطارىء , وهم يحاولون في كل مرة طمأنتي والتأكيد لي أن كل شيء سيكون على ما يرام وأن الامور ستكون بخير , مبدين الكثير من الجدية والمرونة والايجابية وتحملا" لأوامري وطلباتي وتمنياتي , ولم يطلبوا مني الا راحتي وامضائي عطلة طيبة لأنني أستحقها عن جدارة .

وحده زوجي كان يبدو وكأنه منفصل عن الحدث , لم أشعر أنه يشاركني القلق , كنت أراه يتابع أعماله اليومية بهدوء , وعندما يكون في البيت لا ينخرط في مناقشاتنا حول الرحلة , والتحضيرات , ووضع الخطط والأنظمة التي سترسو على البيت فترة غيابنا .

كنت في غرفة الجلوس أثرثر لهذا الزوج الصامت - كأبي الهول – كالعادة , أبثه قلقي ومخاوفي ومشاعري , وأشرح له عن التحضيرات والتوجيهات, وقائمة القوانين التي رتبتها ومهام الاولاد التي سأوكلها لهم ... كان يقلب في هاتفه المحمول ببرودة أعصاب منقطعة النظير, كمن يشعر بالملل أو اللامبالاة , دون أن يعيرني أدنى اهتمامه , وأنا أكتم غيظي وأكاد أغرق في انفعالاتي . حسم الاولاد الموقف بدخولهم الغرفة مبتسمين .

تولت ابنتي الحديث وابتسامة طفولية ساحرة تملأ محياها , تنظر الى أخيها الأكبرالذي يهز برأسه موافقا" على كل جملة تقولها : ان رحلتك يا أمي هي عشرة أيام وليس عشر سنوات , فأرجوك ألا تقلقي , لأننا قررنا أن نستغل فترة غيابك , فلن نذهب الى مدارسنا , ولن ندرس دروسنا , وسننام حتى الظهر, ولن نهتم بنظام البيت,ولن نقيم وزنا" لقوانينه , وسنقيم كل ليلة حفلة مجنونة وسندعو كل أصدقائنا , وسنسهر حتى الفجر, وسنرفع أصوات الموسيقى الصاخبة ,حتى يلتم علينا الجيران . نعتقد أنك سترتاحين الآن .عشرة أيام يا أمي , رحلتك هي فقط عشرة أيام . خرج الاولاد من الغرفة يتهامسون ويضحكون , أما أنا فكنت بحالة من الذهول جعلتني عاجزة عن الكلام أو الرد.
أما زوجي فنظر الي ضاحكا"بصوت عال على شكلي المدهوش , وعيني الجاحظتين , وفمي المفتوح , وقال لي مربتا" على كتفي : " نسيت ان اخبرك : لولاد كبروا " أكمل ضحكته الشامتة وهو يهز برأسه ... ومشى .

وكأنني استفقت من نوم عميق على أسئلة من نوع آخر تضج في رأسي , وتبدوأجوبتها وكأنها مستحيلة : أبهذه السرعة يكبرون ؟ هل مر كل هذا الوقت , دون أن أنتبه ؟ هل كنت أخنقهم بقوانيني وأنظمتي ؟ هل يعتبرون فترة غيابي عنهم مساحة حرية لهم ؟ وأنا متى تحولت الى نسخة طبق الأصل عن والدتي ؟ أو أنها أنانية الأم التي لا تريد أن تصدق بأن أطفالها سيكبرون , ويتخلون عن رعايتها لهم ؟ ...

تبسمت وعلى وجهي ألف علامة تعجب ودهشة , وقشعريرة تجتاح جسدي . تناهى الى مسمعي صوت السيدة فيروز آتيا" من بيت الجيران عبر نافذة غرفة الجلوس وهي تغني جبران خليل جبران " أولادكم ليسوا لكم ...." تبسمت واجتاحني إحساس غامر بالفرح وغنيت معها " أولادكم أبناء الحياة " .... أيقنت لحظتها أنني سأقضي رحلة رائعة , أما الاولاد... فحتما"... سيكونون بخير.

   

اخر الاخبار