الجمعة 04 تموز 2025 الموافق 09 محرم 1447
آخر الأخبار

الثورة الحسينية والدعوة لرفض البيعة للنظام الظالم ... بقلم فضيلة الشيخ حسين اسماعيل

ياصور
إن لكل ثورة عبر التاريخ منطلقات تشكل الدافع لها، كما أن لكل ثورة أهدافا تسعى إلى تحقيقها، ، وإن الثورة الحسينية هي من أعظم الثورات الرسالية والإنسانية على امتداد التاريخ البشري، وحملت الثورة الحسينية نفس منطلقات الأنبياء وأهدافهم في حركاتهم وثوراتهم ، والتي كانت تهدف إلى بناء مجتمعات العدالة والفضيلة، ومجتمعات الاستقامة والإيمان، مجتمعات تحكمها أنظمها عادلة تؤمن بكرامة الإنسان، وتلتزم شرع الله الذي يرفض الظلم.

وتحتوي الثورة الحسينية على كثير من الدروس والقيم لبناء المجتمع الصالح والمستقيم، المجتمع المسؤول عن بناء الأنظمة العادلة، والتي تؤمن بالإنسان وبالدفاع عن حقوقه التي شرعها الله،ومن هذه الدروس الخالدة رفض التعاون مع الحكام الظالمين، وتحميل الناس مسؤولية السكوت عن الحاكم الظالم، ودروس الثورة الحسينية لم تكن مختصة بعصر الإمام الحسين، بل هي تشمل كل العصور وصولا إلى عصرنا الحاضر، وكل إنسان يستطيع اللحاق بالركب الحسيني، لأنه ركب تجاوز الزمان والمكان.

ثم إن الإمام الحسين عليه السلام انطلق في ثورته على النظام الأموي الذي هو بقيادة يزيد من خلال القرآن الكريم الذين ينهى عن السكوت عن سياسة الظلم والجور والطغيان، التي كان يمارسها النظام الأموي المنحرف، ولم تكن انطلاقة الإمام لأهداف شخصية، بل إن حركة أئمة أهل البيت عليهم السلام هي حركة تنطلق من القرآن الكريم. ومن أراد أن يدرس سيرة أهل البيت فعليه أن يدرسها من خلال القرآن الكريم، لذا من هنا نقول بأن ثورة الإمام الحسين عليه السلام هي ثورة قرآنية، انطلقت من الآيات التي تنهى عن التبعية لسياسة الأنظمة الظالمة.

أهداف الذين اعترضوا على خروج الإمام الحسين (ع)

إن الذين اعترضوا على خروج الإمام الحسين واعتبروا بأنه خرج عن حده فقتل بسيف جيده، كما ذهب إلى ذلك ابن العربي وابن خلدون وابن تيمية وابن حجر الهيثمي ومحمد الخضري وغيرهم، فقد برأوا يزيد وادعوا أن خروج الإمام الحسين لم يكن شرعيا وأن بيعة يزيد كانت شرعية ومن خرج عليه كان باغيا يستحق القتل في شرع الله، والبعض ادعى بأن خروج الإمام الحسين كان سبب في فرقة الأمة ومنع وحدتها، وهذا الكلام جريمة كبرى في حق الإسلام والقرآن والسنة النبوية لأن الإمام الحسين عليه السلام لم يقتل بسيف جده بل قتل بسيف يزيد الفاسق والفاجر والظالم والمشرك، ولأن الإمام الحسين عليه السلام قد ثبت بشهادة القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة أنه إمام معصوم مفترض الطاعة.

وهؤلاء الذين برروا ليزيد جريمته قد انطلقوا من مبدأين وهما : المبدأ الأول : وهو مبدأ تبرير موقف الصحابة الذين بايعوا يزيد، ولأن القول بشرعية خروج الإمام الحسين على يزيد فيه اتهام للصحابة الذي قبلوا بحاكمية يزيد، واتهموا بنصرتهم للحاكم الظالم، وأصحاب هذا المبدأ يقولون بتعديل كل الصحابة، وفي الواقع الصحابة فيهم العدول وفيهم غير العدول، وليس كل الصحابة أصحاب نزاهة واستقامة، وسورة المنافقين تشهد بذلك وغيرها من السور والآيات، والمبدأ الثاني : هو التزام اصحاب هذا المبدأ بالأحاديث التي تدعو إلى طاعة الحاكم الفاسق والمنحرف، وهي أحاديث موضوعة من قبل النظام الأموي، لتبرر مشروعية نظامه، وتهدد كل من ينتقده بالقتل وممارسة الإرهاب بحقه حتى يضمنوا استقرار حكمهم وسلطانهم.

كما أن النظام السياسي في عصور هؤلاء الذين برروا ليزيد جريمته الكبرى في حق الإمام الحسين يقوم على نفس المبدأ، الذي قامت عليه حاكمية يزيد، فالإمام الحسين عليه السلام يدعو إلى محاسبة الحكام والأنظمة السياسة ، وأن شرعيتها رهن استقامتها، فإذا فقدت الاستقامة فإنها تكون قد فقدت شرعية الحكم والسلطة.

القرآن والسنة يشهدان بشرعية عاشوراء

إن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة يشكلان شاهدا كبيرا على شرعية الثورة الحسينية، وأن ما قام به الإمام الحسين عليه السلام هو ما أمر به الإسلام، لذا الإمام الحسين عليه السلام سن سنة حسنة في الأمة، وسنة إصلاحية في ضرورة إبعاد الحكام المنحرفين عن ساحة الأمة، لأنهم سيكونون سبب الويلات والأزمات لها في كل المحطات الحياتية والثقافية والإيمانية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية .

وأخطر ما في هذه المحطات هو دفع الأمة إلى الانحراف عن دين الإسلام وتعاليمه السمحاء، وعلى هذا الأساس نقول للذين يقولون ببدعة احياء عاشوراء أنكم خاطئون، لأن عاشوراء تجسد تعاليم الإسلام والقرآن، فهل تقولون بأن تعاليم القرآن هي خاطئة، وهل تقولون بأن تعاليم السنة النبوية الشريفة هي خاطئة، لأن هذه التعاليم القرآنية والنبوية دعت إلى إسقاط الأنظمة الظالمة.

فالأمة قد خسرت الكثير بتبنيها مبدأ يزيد ومبدأ النظام الأموي، وهو التبرير لشرعية الحكام الفاسدين، والأمة تربح الكثير إذا اتبعت مبدأ الإمام الحسين الذي يدعو إلى منع المفسدين من الوصول إلى الحكم وإلى السلطة، ولو أن الأمة اتعظت بمدرسة عاشوراء لكانت الأمة عزيزة في حياتها وعلى امتداد العصور، ولما استطاع الأعداء ودول الاستعمار والاستكبار العالمي أن يفرضوا وصايتهم عليها وأن يسرقوا خيراتها، مستعينين بالحكام الفاسدين.

ومن هنا علينا أن نعود إلى القرآن الكريم وإلى السنة النبوية الشريفة، لنتعرف من خلالهما على المبادئ والتعاليم التي تدعو إلى إقامة نظام سياسي عادل، يقوم على رأسه الصالحون والمستقيمون، ونعرض نصين قرآنيين يأمران بالخروج والرفض لحاكمية سلاطين الجور والفساد، كما نعرض نصا روائيا شريفا يدعو الأمة إلى الوقوف بوجه السلطة المنحرفة.

القرآن والدعوة إلى رفض التعاون مع الحاكم الظالم

هناك نصوص قرآنية وآيات شريفة تدعو إلى رفض سلطة الحاكم الجائر ونعرض نصين قرآنيين يشكلان شاهدا على ذلك، ونبدأ بالنص الأول، وهو قوله تعالى : ( وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ (113) ) هود، تشير هذه الآية الشريفة إلى رفض حاكمية الإنسان الظالم والجائر، وسنبين ذلك من خلال تحليلنا لهذه الآية المجيدة، فنقول بأن هذه الآية تشير إلى ثلاثة أمور هامة ، وهي :

أولا : نهى الله تعالى في هذه الآية عن الركون والمداهنة والمودة والنصيحة للظالمين، حيث قال تعالى : ( وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) ، وأبرز أفراد الظالمين هم الحكام والسلاطين، الذين يظلمون الناس في حكمهم وسياستهم، وهدد تعالى الناس الذين يقدمون العون للظالمين، وخاصة للحكام منهم بدخول النار في الآخرة، فقال تعالى : ( وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)، وهذا التهديد هو دعوة للخروج على الحاكم الظالم وعدم نصرته.

وقد يكون المقصود بقوله : ( فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) هو ظلم الظالم نفسه في الدنيا ، حيث أن الظالم سيشمل ظلمه الذين يقفون معه فيضحي بهم فيما إذا تواقفت مصلحته مع ذلك، كما أنه قد يكون المقصود بقوله : ( فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) ، هو نار المجاهدين ونار الانتقام الإلهي، وهذا التهديد الإلهي لأعوان الظالم يشكل دعوة لهم إلى الخروج على الحاكم الظالم، وهذا هو التهديد الأول في الآية لمن يعين الحاكم الظالم.

الأمر الثاني : وهو أن الله تعالى هدد ثانيا في الآية المتقدمة من كان عونا للظالم بأنه تعالى سيحرمه من ولايته وحفظه وإعانته بعد الممات ويوم القيامة، حيث يحتاج الإنسان حينئذ إلى هذه الولاية والإعانة، لذا قال تعالى : ( وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ) ، وقد يكون المقصود بالخسران لولاية الله ليس فقط في الآخرة، بل في الدنيا أيضا عند مواجهة الشدائد، لذا على الناس أن يتخلوا عن العون والبيعة للحاكم الظالم في الدنيا، حتى لا يخسروا عون الله وولايته لهم في الدنيا والآخرة. وفي ذلك دعوة للخروج على الحاكم الظالم وعدم السكوت عن ظلمه.

الأمر الثالث : وهو أن الله تعالى هدد أعوان الظلمة بحرمانهم من نصره لهم، وهو متفرع عن التهديد الثاني طالما أنهم أعوان لهم، لذا قال تعالى : ( ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ ) ، كيف يمكن للإنسان المظلوم والمجتمع المظلوم أن ينصره الله على الظالم، وهو راض بسياسة الحاكم الظالم، وهو لا يبدي أي معارضة، ولا يريد أن يقدم تضحيات في مواجهة هذا الظالم، فالنصر الذي يقدمه الله تعالى للمظلومين مشروط بإظهار المعارضة للظالمين، وإلا فالسكوت يعتبر شراكة مع الحاكم في الظلم ، فالظالم لو لم يجد من يسكت على ظلمه ويرضى به لما تجرأ على الظلم .

كما يمكن أن يكون المقصود بقوله تعالى : ( ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ ) بأنكم ستخسرون أنتم والحكام الظالمون في المواجهة مع جبهة الحق، ولا تتوقعوا بأن ما يملكه الظالم من قوة وبسط نفوذ هو سيدوم، بل هو نفوذ أمده قصير ولن يدوم. إذا هذا هو التهديد الإلهي الثالث في الآية لأعوان الظالم، وهذا التهديد هو دعوة للخروج على الحاكم الظالم، لذا هذه الآية من الآيات الصريحة والداعية للخروج على حكم يزيد ونظامه الفاسد.

القرآن والدعوة إلى فضح ظلم الحاكم

وننتقل إلى نص قرآني آخر وهو في سورة النساء، وهو نص هام وفيه دعوة واضحة إلى إظهار المعارضة والخروج على الحاكم الظالم، وهو قوله تعالى : ( لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) ) النساء، فالله تعالى أشار في هذه الآية إلى أمرين يتعلقان بالإنسان والمجتمع المظلوم، وهما :

الأمر الأول : وهو أن الله تعالى أخبر أنه يكره ولا يحب نشر وإشاعة سيئات الآخرين طالما أن أصحابها لا يشكلون خطرا على المجتمع والإنسان، وبقي خطر هذه السيئات محصورا في دائرتهم، فإنه لابد من إصلاح هذه السيئات بشكل سري، لأنه إذا تم نشرها أمام الناس، قد يدفع الناس إلى التجرؤ على فعلها، وقد يدفع أصحاب هذه السيئات إلى الإصرار على معاصيهم، كردة فعل على نشر معاصيهم غير المعلنة، لذا فالمصلحة قد تقتضي أن يتم التستر على العصاة، وقد تقتضي المصلحة من ناحية ثانية فضح العصاة، فيما إذا كانوا يشكلون خطرا على الناس والمجتمع ، كما لو كانوا يعتدون على حقوق الناس ويظلمونهم، فإنه لا يجوز التستر عليهم في هذه الحالة، بل لا بد من إشهار ظلمهم.

والله تعالى قد أخبر أنه يكره للإنسان المظلوم الذي يسكت على ظلم الظالم له ، ودعا تعالى هذا المظلوم إلى أن يجهر بمظلوميته، لأن الجهر بالمظلومية ستشكل دعوة للمجتمع إلى التحرك لنصرة المظلوم وردع الظالم عن ظلمه، لذا قال تعالى : ( لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ۚ). ثم أن فضح الظالم فيه إنذار للمجتمع، بأن هذا الظالم فإنه كما ظلم هذا الإنسان فإنه يمكن أن يظلم أي شخص آخر في المجتمع، لذا يجب على الجميع أن يتحرك لإسقاط هذا الظالم.

الأمر الثاني : فإن الله تعالى وعد المظلوم الذي يفضح ظالمه بأن ينصره على الظالم، ويعينه على رفع الظلم عنه، لذا قال تعالى : ( وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا )، أي إن الله تعالى يسمع دعوة المظلوم الذي يجهر بظلم ظالمه، وتكمن الحكمة في ضرورة نصرالله له على الظالم وتعتبر هذه الآية القرآنية دعوة صريحة للخروج على حكم يزيد وأمثاله، وعدم جواز السكوت عنهم، ونقول لهؤلاء الذين برروا ليزيد الفاسق والمجرم قتل الإمام الحسين، أين هم من هذه الآيات الشريفة، التي تتوعد المظلومين بعذاب الله وغضبه فيما إذا سكتوا على سياسة الحاكم الظالم، ألم يتدبروا في هذه الآيات وغيرها، فالإمام الحسين عليه السلام في ثورته وخروجه على يزيد انطلق من القرآن الكريم، والتزم تعاليم القرآن بوجوب الخروج على الحاكم الظالم.

ونحن نحي عاشوراء لنتعلم من الإمام الحسين عدم المداهنة للظالمين، لنرفض سياسة الأنظمة الظالمة المتآمرة على حقوق الإنسان والمجتمع، لذا لابد وأن نتعلم من عاشوراء الدوافع التي دفعت الإمام الحسين للخروج بثورته على النظام الأموي اليزيدي، أنها دوافع قرآنية إسلامية، حتى تكون لنا أيضا دوافع على مواجهة الطغاة والظالمين .

ولا شك أن الآيات التي تنهى عن نصرة الظالم هي بنفسها وبطريق أولى تنهى عن صدور الظلم حتى ولو يكن حاكما ، ومن المفترض أن الإنسان الذي يرفض الظلم من غيره، أن يرفضه من نفسه للناس، أما الإنسان الذي يقبل من نفسه ظلم الآخرين، لا شك أنه إنسان لا يمكن أن يكون إلا إلى جانب الظالمين والحكام المنحرفين والفاسدين، لذا عاشوراء تعلمنا على رفض الظلم من قبل أنفسنا أولا حتى ننجح في رفض الظلم من غيرنا ونقف في مواجهة الأنظمة الظالمة والمنحرفة.

السنة النبوية والدعوة إلى الخروج على الحاكم الظالم

والآن نذكر نصا نبويا شريفا يشهد على مشروعية الثورة الحسينية، أنها ثورة امتدادها إلى الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأنها انطلقت انطلقت من تعاليمه الهادفه والمضيئة، والتي منها رفض القبول بالحاكم الجائر والظالم. وهذا النص النبوي كان الإمام الحسين قد خطبه عندما وصل إلى مكان يدعى بالبيضة ، وكان قد التقى بالحر وعسكره، فصلى الإمام الحسين بهم وبأصحابه، ثم خطب عليه السلام، وقال بعد الحمد والثناء على الله تعالى :

( أيها الناس، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله، ناكثا لعهد الله، مخالفا لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل ولا قول، كان حقا على الله أن يدخله مدخله. ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمان، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله، وأنا أحق من غير. ) تاريخ الطبري (طبع ليدن) ٧ / ٣٠٠، والكامل لابن الأثير ٤ / ٤٨.

هذه الخطبة هي من أهم الخطب، والتي تستحق أن تدرس بعمق، وأن تتعلمها كل الأجيال المؤمنة والرسالية، حتى يعرفوا ويعلموا بأن الحاكم في الإسلام محاسب ومسؤول، والأمة أيضا محاسبة ومسؤولة عن حكامها، فهناك مسؤولية مشتركة ، الحاكم مسؤول عن الأمة والأمة مسؤولة عن الحاكم، وإذا صلح الحاكم صلحت الأمة، وأيضا إذا صلحت الأمة صلح الحاكم، ونعود الآن إلى هذه الخطبـــة المتقدمة لنبرز المحاور التي تعرضت لها ، وذلك على النحــو التالي :

المحور الأول : الخروج على يزيد هو تكليف إسلامي عام

إن الإمام الحسين بدأ خطابه بتوجيهه إلى الناس جميعا ، إلى عموم المسلمين، لذا قصد الإمام بقوله : ( أيها الناس ) أي اعلموا أيها الناس جميعا بأن الدعوة إلى رفض البيعة ليزيد ليكون حاكما على الأمة، ليست خاصة بالإمام الحسين وأصحابه، بل هذا الرفض هو تكليف يعم المسلمين في كل زمان ومكان، فإنه لا يجوز أن يكون هناك حاكم منحرف وفاسد على المسلمين، سواء في عصر الإمام الحسين كيزيد، أو بعد عصره كأي حاكم آخر.

ونحن أيضا في عصرنا الحاضر لا يجوز لنا أن نرضى بالحاكم الظالم أو بالتبعية للأنظمة الظالمة، ومن هنا كانت عاشوراء مدرسة لإصلاح الأنظمة السياسية التي تحكم الأمة، لذا لا حجة لأحد في السكوت عن حاكمية يزيد، وكأن الإمام الحسين أشار إلى الصحابة الذين سكتوا أو رضوا بحاكمية يزيد، وهذه مسألة هامة، وهي تشكل ردا على الذين اعتبروا أن الصراع بين الإمام الحسين ويزيد هو صراع شخصي وهو امتداد إلى الصراع لما قبل الإسلام بين بني هاشم وبني أمية ، وهذا تشويه للحقيقة، بل هو صراع بين جبهتين، جبهة تدافع عن الإسلام، وهي جبهة الإمام الحسين، وجبهة تتأمر على الإسلام، وهي جبهة يزيد والنظام الأموي وأعوانه.

المحور الثاني : الرسول الأكرم أمر بالخروج على الحاكم الظالم

بدأ الإمام الحسين عليه السلام خطبته بإيراد حديث عن الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقال عليه السلام : ( أيها الناس إن رسول الله قال : من رأى سلطانا جائرا)، وقصد الإمام الحسين عليه السلام بإيراد هذا الحديث النبوي، ليقول بأنه في خروجه كان منطلقا من سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتعاليمه التي تأمر بالنهي عن التبعية للحاكم الظالم، وبوجوب الخروج عليه، وأنه عليه السلام لم يخرج من أجل صراع شخصي ومصلحة شخصية.

وأنتم أيها المسلمون جميعا مأمورون باتباع سنة النبي الأعظم، فالإمام الحسين عليه السلام أراد أن يوصل رسالة للمسلمين في عصره وفِي كل العصور، أن معركته مع يزيد هي معركة النبوة وأن خروجه على يزيد ليس تكليفا خاصا به وحده، بل هو تكليف لكل مسلم ومؤمن بالنبي والإسلام. وهنا توجد إشارة هامة وهو إن إمامة أهل البيت عليهم السلام ليست منفصلة عن النبوة، بل إن دورها يكمن في الحفاظ على سنة النبي ورسالته وتبليغها للناس وتعليمهم إياها، وقيادتهم إلى تطبيقها، والله تعالى استخلف الإمام الحسين، وبافي الأئمة عليهم السلام واختارهم ليكونوا أوصياء للنبي وخلفاء له من أجل حفظ رسالته، كما ثبت ذلك بالنص، وعليه فالإمامة عند الشيعة الإمامية ليست بديلا عن النبوة.

نعم لعل هناك تقصير في موضوع التركيز على سيرة النبي في ثقافتنا العامة وعلى منابرنا، حيث يقل التعرض لسيرة النبي الأكرم حيث أننا دائما نركز على الإمامة ، فيشتبه على السامع أن الإمامة هي بديل عن النبوة، مع أن دعوة الأئمة عليهم السلام تقوم على الدعوة إلى رسالة النبي، لذا يجب علينا أن نركز في خطابنا على سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحياته.

كما أن هناك تغييبا لثقافة النبوة من على منابرنا ومن حياتنا الثقافية وأن حضورها لم يكن بالمستوى المطلوب، هناك أيضا تغييب أيضا لحياة باقي الأئمة عليهم السلام غير الإمام الحسين عليه السلام، نعم لهم حضور ثقافي في حياتنا لكنه حضور خجول ومحدود، فكل إمام من الأئمة الإثني عشر نحن مأمورون باتباعه وبدراسة حياته، كما أننا مأمورون باتباع ودراسة حياة الإمام الحسين عليه السلام، نعم قضية الإمام الحسين هي قضية مركزية في حياة الأئمة، لكنها ليس على أساس ومبدأ التغييب لحياة باقي أئمة أهل البيت عليهم السلام، فهناك حركة تكامل بين أدوار الأئمة عليهم السلام.

المحور الثالث: يجب على الجميع رفض الحاكم الظالم

إن من التكاليف التي بعث بها رسول الله من عند الله، وهو أنه يجب على المسلمين أن يغيروا الحاكم إذا لم يكن أهلا للحكم، ولم يكن عادلا، ولم يكن يطبق رسالة الإسلام، فإنه لا يجوز لهم القبول به، أو الإبقاء عليه فيما إذا انحرف، لذا جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله ناكثا لعهد الله مخالفا لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقا على الله أن يدخله مدخله ) ، فالإمام الحسين عليه السلام حينما خرج على يزيد ورفض بيعته، إنما خرج بناء على العمل بسنة النبي والاقتداء بتعاليمه.

فإن النبي أمر المسلمين جميعا أن يغيروا الحاكم الذي لا يطبق سنته وشريعته في بلادهم ومجتمعاتهم، ويرتكب الآثام ويعتدي على حقوق الناس، وهذا التكليف لا يخص الإمام الحسين عليه السلام، بل هو تكليف لكل مؤمن، وهذا التغيير ليس خاصا في عصر الإمام الحسين، بل هو تكليف يشمل كل العصور، فأي حاكم ظالم جائر يخالف شريعة النبي في رسالته، لا يجوز للمسلمين أن يسكتوا عنه ويرضوا به حاكما عليهم، بل يجب عليهم الإتيان بشخص آخر يحمل صفات الحاكم العادل الحاكم الملتزم بطاعة الله ورسوله.

فرسالة عاشوراء رسالة صعبة وثقيلة وليس من السهل الإلتزام بها وهي رسالة للداخل الإسلامي، وهي رسالة للإصلاح السياسي، وتحتاج إلى مجتمع مؤمن بالله ورسوله، ويؤمن بخط التضحية والعطاء، فإنه من السهل أن نجد أناسا يبكون على الإمام الحسين ويحزنون عليه، ولكن ليس من السهل أن نجد أناسا يقرنون البكاء بالتضحية والجهاد، هذه هي عاشوراء هي من أجل صناعة المجتمع الرسالي الذي يرفض أن تحكمه أنظمة فاسدة ومتآمرة على مصالحه، ويؤمن بالعطاء والتضحية.

ثم إن النبي هدد وتوعد المسلم الذي يسكت عن سياسة الحاكم الظالم، بأن الله تعالى سينتقم منه وسيدخله مدخل الظالم من العذاب الأليم في الآخرة، لذا قال النبي في الحديث المتقدم الذي أورده الإمام الحسين في خطبته : ( فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقا على الله أن يدخله مدخله )، أي أن يدخل الله تعالى الساكت عن ظلم الظالم فيما يستحق من العذاب في الآخرة، لأنه بسكوته جعل الحاكم يستمر في طغيانه، لأنه لم يجد من يردعه.

لذا من هنا نجد الناس في بعض الأوقات يصنعون الحاكم الفاسد، ويغرونه بالفساد طمعا بدنياهم، فيسعون إلى إفساد الحاكم، حتى يحصلوا على مصالحهم غير المشروعة، فيظهرون التأييد للحاكم وأنهم معه لكن بشرط أن يتبع أهواءهم، فيدفعونه إلى تقديم امتيازات لهم، ولو على حساب بعضهم البعض، وعندما يكون الحاكم ضعيف الإرادة، فإنه يسقط في فتنة الناس، لذا فالحاكمية هي سلطة مشتركة بين الحاكم والنَّاس، والمطلوب من الحاكم الالتزام بخط الاستقامة، حتى ولو انحرفت الأمة.

وبتعبيرآخر المجتمع الرسالي والإيماني، والذي يؤمن بخط الأنبياء يصنع الحاكم العادل والصالح، أما المجتمع غير الملتزم بقيم الدين والإنسانية فإنه سيأتي بالحاكم غير العادل ولا يناسبه الحاكم الصالح، ومن هنا نقول بأن نشأة الحاكم في مجتمع رسالي إيماني تجعله وتصنع منه حاكما عادلا.

وكما يجب على الأمة أن تغير الحاكم الجائر، فإنه يجب عليها أن تقف إلى جانب الحاكم العادل وتعينه وتلتزم الأحكام والقوانين والقوق العامة، وتصبر على حكمه وعدله وعلى الإصلاحات التي يقوم بها، فالشعب الذي لا يحافظ على الحقوق العامة داخل وطنه، ويسعى إلى مخالفة الأنظمة والقوانين، فمن أين سيحصل على حاكم عادل وعلى سلطة عادلة، فالعدالة ثقافة تبدأ مع الناس حينما يحترمون حقوقهم العامة، بينما المجتمع الذي يطالب الحاكم بالعدالة، والمجتمع نفسه الذي لا يجسد هذه العدالة في علاقته مع وطنه ومع بعضه البعض فمن أين سيحصل على سلطة عادلة.

ثم إن قول النبي صلى الله عليه وآله : ( كان حقا على الله أن يدخله مدخله )، ليس بالضرورة أن يدخله مدخله من العذاب في الآخرة فقط، بل يمكن أن يكون مقصود النبي أيضا هو أن يدخل الله هذا المجتمع مدخل الذل والحرمان من نعمة الأمن والاستقرار في الحياة الدنيا، لأنه لا يوجد مجتمع يعيش العز والاستقرار في ظل حاكم ظالم.

المحور الرابع : تغيير النظام الجائر بالقول والفعل

يجب على المسلمين جميعا أن يغيروا النظام الجائر، وأن هذا التغيير على قسمين، قسم يتعلق بالقول والإعلام وقسم يتعلق بالفعل والتحرك على الأرض، لذا قال الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم : ( فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقا على الله أن يدخله مدخله ) ، وهنا نتوقف عند موضوع التغيير الذي أمر الله به، وقد ذكر الرسول الأكرم نوعين من الأسلوب في التغيير.

أسلوب يعتمد على التغيير العملي من قبيل المقاطعة ورفض البيعة له والدعوة لعصيانه مقدمة للخروج عليه والسعي لإسقاطه، أما الأسلوب الثاني فيعتمد على الحركة الإعلامية وتعبئة الناس ضد الحاكم الجائر بكشف فساده وجوره وظلمه ليسقط من القلوب والنفوس، والحركة الإعلامية لها دور كبير في دفع المجتمع لأخذ الموقف العملي الرافض للحاكم الظالم .

والإمام الحسين عليه السلام استعمل الأسلوب الأول والثاني، فإنه كان يحدث الناس عن فساد النظام الأموي، وأنه نظام غير شرعي ولا يجوز مبايعته ولا نصرته، إن الإنسان مسؤول عن مواقفه التي يعبر عنها، فمدح قوى الظلام والجماعات المنحرفة لا يجوز ، والسكوت عنها لا يجوز، وهو عليه السلام في خطبته التي خطبها في جيش الحر، كان يدفعهم إلى أخذ الموقف الشرعي من يزيد، فالإسلام يعطي قيمة للكلمة المسؤولة التي يطلقها الإنسان المؤمن في مواجهة الحاكم الجائر، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( ألا لا يمنعنّ رجلاً مهابة الناس أن يتكلم بالحق إذا علمه. ألا إنّ أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، دار الحديث، الطبعة الأولى، ج1، ص656.

فلا يجوز السكوت عن انحراف الجهات الحاكمة، بل لا بد من فضحها، والسكوت يعتبر شراكة ورضا عن أفعالها، وهذا الموضوع لا يخص الأنظمة الحاكمة فقط، بل حتى السكوت عن ظلم غير الحكام في القضايا العامة والاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية فهو لا يجوز عليه.

فالإنسان المنحرف عندما يعلم أن المجتمع لن يسكت على فساده، فإنه سيخشى ويتورع عن ارتكاب الفساد، لكن عندما يجد هذا الإنسان المنحرف أن الناس تسكت عنه ولا تعبأ بما يقوم به، فإن ذلك يجعله أكثر جرأة على ارتكاب الفساد، فإن قول الحق في المجتمع يزرع الوعي في نفوس الناس، ويجعلهم أكثر جرأة في رفض الباطل، فالإنسان المؤمن ينطلق في علاقاته مع الناس من خلال علاقته مع الله، فلا يهادن ولا يخشى أحد في الله، إن السكوت عن قول الحق فيه إثم ومعصية، فموقف الإنسان له ثمن عند الله ، وعليه ألا يبيعه للظالمين لكي لا يخسر رضا الله ولا يعتبر شريكا معهم، وعلى الإنسان أن يقدم النصيحة للناس وللمجتمع، وخاصة في صراعهم مع الظالمين والمفسدين.

المحور الرابع : يزيد حاكم ظالم فاسق

وهو أن الإمام الحسين عليه السلام بعدما ذكر حديث الرسول الأكرم حول وجوب تغيير الحاكم الظالم ودعم مجيء حاكم عادل، وأن هذا التكليف الإلهي هو واجب على جميع المؤمنين والمسلمين، وأنه لا مبرر لأي إنسان في أن يقدم معونة لحاكم ظالم، تعرض الإمام الحسين إلى بيان صفات النظام الأموي الحاكم التي تكشف عن فساده، وأنه مصداق للنظام الظالم والجائر، وهو بحسب السنة النبوية الشريفة يجب تغييره، وخاصة أن النبي – كما أشار في الحديث المتقدم – كان قد أمر المسلمين بتغيير الحاكم فيما إذا رأوا منه انحرافا وجورا، وخاصة فيما إذا كان الإنحراف على مستوى العقيدة.

وقد ثبت أن يزيد بن معاوية من خلال سيرته المنحرفة وأقواله الفاسدة أنه ليس بمسلم، وإنها لمهزلة كبيرة للمسلمين أن يحكمهم إنسان باسم الإسلام ومن موقع أنه خليفة النبي، وهو لا يُؤْمِن بنبوة محمد، وقد أقر يزيد على نفسه بالكفر والشرك في أكثر من مناسبة، ومنها أنه عندما تم إدخال السبايا لأهل البيت في الشام في قصره ، فقد افتخر يزيد بقتله للإمام الحسين وأولاده وأصحابه، وأنشد شعرا بعضه لابن الزبعرى، فقال لعنه كما في رواية الطبري وغيره :

1- ليت أشياخي ببدر شـــــــهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

2- قد قتلنا القرم من ســــــاداتكم

وعدلنا ميل بدر فاعتـــــــــدل

3- فــــــأهلوا واستهلوا فـــرحـــا

ثم قالـــــوا يا يزيد لا تـــــشــل

4- لســــــت من خندف إن لم أنتقم

مـــــن بنى أحمد ما كان فـــعل

5- لــــعبت هاشـــــــــم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحى نــــــــــــزل

إن البيت الأول والثاني هما لابن الزبعري، وهما من قصيدة له قالها بعد سقوط شهداء للمسلمين في معركة أحد وهم سبعون شهيدا، واعتبر ابن الزبعرى أنه بذلك تم العدل في الثأر لقتلى المشركين، وذلك لمساواتهم لعدد قتلى المشركين الذين سقطوا في معركة بدر، حيث بلغ عددهم السبعين، وتمنى ابن الزبعري لو كان أشياخه الذين قتلو في بدر أحياء قد شهدوا معركة أحد ورأوا ما سقط للمسلمين من القتلى لدخل الفرح والسرور إلى قلوبهم.

كما أشار ابن الزبعري إلى قتل حمزة بن عبد المطلب في أحد، معتبرا أن المشركين قتلوا سيدا للمسلمين، وخاصة أنه عم النبي وكان له دور في قتل عدد كبير من المشركين ، هو والإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وبعد ذلك أنشد يزيد الأبيات الثلاث الباقية، وهي له، وكان يزيد قد كشف عن انتمائه للعصبية القبلية والعشائرية التي نبذها الإسلام، حينما قال يزيد أنه لن يكون من خندف إن لم ينتقم من أولاد النبي، ويقصد بالدرجة الأولى الإمام الحسين، وخندف هي أم لمجموعة من القبائل العربية التي تنتسب إلى مضر.

ثم إن يزيد أنشد هذه الأشعار المتقدمة لأنه يعتبر بأن الثأر من النبي وأهل البيت ومن علي لم يكتمل إلا عندما قتل الحسين حفيد النبي وابن علي، ثأرا لقتلى المشركين في بدر، وخاصة قتلى بني أمية، فقد سقط لبني أمية في معركة بدر أحد عشر قتيلا، وأكثريتهم سقطوا بسيف علي بن أبي طالب عليه السلام.

ومن قتلى بني أمية الذين سقطوا في معركة بدر حنظلة ابن أبي سفيان وهو شقيق معاوية وهو الأبن الأكبر لابي سفيان، ومن القتلى أيضا عتبة ابن أبي ربيعة وهو جد معاوية لأمه، لجهة أمه هند، وأيضا من القتلى الوليد ابن عتبة خال معاوية، وكذا من القتلى شيبة بن ربيعة أخو عتبة وعم والدة معاوية هند، وهذا ما قصده يزيد بإنشاده لشعر بن الزبعري، أنه يتمنى لو أن أشياخه المشركين الذي قتلوا في معركة بدر من الأمويين وخاصة جده عتبة وخاله الوليد وعمه حنظلة، قد شهدوا معركة كربلاء كيف انتقم لهم يزيد من النبي وعلي والإسلام، وهل هناك مروق وكفر أكثر من ذلك، هذا الذي بايعته الأمة على أن يكون خليفة للنبي لينتقم من الإمام الحسين ومن الإسلام، هذه هي تربية معاوية لابنه يزيد أتى به حاكما على المسلمين لينتقم من الإسلام.

ثم إن يزيد في البيت الأخير وهو له، كان قد أنكر فيه نبوة محمد، واعتبر أن النبي محمد ادعى النبوة ليتسلط على العرب ويملك رقابها ويستبد بها، لذا قال : ( لعبت هاشم بالملك )، كما أنكر أن القرآن هو كلام الله والوحي المنزل من عنده، بقوله : ( فلا خبر جاء ولا وحي نزل )، ومع كل ذلك هناك من بايع يزيدا حاكما على المسلمين وخليفة لرسول الله، وهو عار ليس بعده عار.

ثم إن الإمام الحسين عليه السلام حينما خرج رافضا لبيعة يزيد، ومعترضا عليها، كان قد بين وكشف عن سبب رفضه، وهو أنه التزام سنة النبي وأوامره، ومن هنا ندرك أن الإنقلاب الذي حصل على الإمام الحسين عليه السلام إنما كان انقلابا على الإسلام وعلى تعاليم الرسول الأكرم، وقد ذكرنا فيما تقدم أن السبب الذي جعل الإمام يتحدث عن النبي، وماذا قال عن موقف الإسلام في حق الحاكم الجائر، هو لأن الإمام الحسين عليه السلام أراد أن يُبين أن حركته وثورته، هي امتداد لنهج النبي والقرآن، وأن ثورته هي امتداد لثورة النبي، بل لثورة كل الأنبياء والمرسلين.

فماذا قال الإمام الحسين في وصفه لحكام بني أمية ؟ ، وخاصة في وصفه لمعاوية ولابنه يزيد الفاسدين والمنحرفين ، فإنه قال عليه السلام : ( ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمان، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله، وأنا أحق من غير ). فإن الإمام الحسين عليه السلام قد وصف النظام الأموي الحاكم في هذا المقطع من خطبته بست صفات فاسدة ومنحرفة، وتكفي صفة واحدة منها لإسقاط شرعية هذا النظام ووجوب الخروج عليه وتغييره.

النظام الأموي اليزيدي غير شرعي

والعجيب أن الإمام الحسين عليه السلام هاجم النظام الأموي أمام قائد عسكري في جيش عبيد الله ابن زياد وهو الحر وأمام عسكره، دون أن تظهر منهم أي معارضة، وذلك يدل على أنهم أدركوا أن الحق في كلام الإمام، ولعل هذا الكلام للإمام ترك تأثيرا في نفس الحر، وظهر أثره في اليوم العاشر ، عندما تخلى عن معسكر عبيد الله بن زياد وانضم إلى معسكر الإمام الحسين مؤثرا الآخرة على الدنيا.

ثم إن الإمام الحسين لم يذكر اسم يزيد في كلامه المتقدم، بل اكتفى بالوصف والإشارة، فالإمام عليه السلام ركز على الأعمال وليس على الأشخاص، ليوحي بأنه لا يوجد مشكلة شخصية مع يزيد ومع بني أمية، بل المشكلة هي مع أعمالهم وسياستهم المنحرفة والمعادية للإنسان والإسلام، والتي لا تسمح لهم بأن يتسلموا أي مسؤولية في المجتمع الإسلامي، والآن نتحدث عن صفات النظام الأموي الست، وذلك على النحو التالي :

الصفة الأولى : بلغ يزيد وأعوانه أعلى درجات الإنحراف

وهي أن الإمام عليه السلام وصف يزيد وأعوانه بأعلى درجات الإنحراف والفساد، وهو أنهم قد اتبعوا الشيطان في أفكارهم وسلوكهم ، ولم تعد لهم أي رابطة تربطهم بالإسلام وتعاليمه السمحاء، لذا قال الإمام عليه السلام : ( ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان ) ، يعنى أنهم اتبعوا الشيطان، وأطاعوه فيما يأمر به، ومن المعلوم أن سياسة الشيطان هي سياسة عدائية للإنسان، والله تعالى أخبرنا عن عداء الشيطان للإنسان، وللأنبياء والرسالات ، وأخبرنا تعالى عن قصته مع نبينا آدم عليه السلام أبي البشر الأول، في سعيه لإفساد علاقة الإنسان بالله وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وهذا يعني أن المتبع للنظام الأموي والراضي به، هو متبع للشيطان وراضي بسياسته.

وقد شرح الله تعالى لنا أهداف الشيطان في القرآن الكريم، وفِي كثير من الآيات، وخاصة في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) ) البقرة، فقد نهى الله تعالى ليس عن اتباع الشيطان، بل عن اتباع كل ما يؤدي إلى طاعة الشيطان، وكشف تعالى عن الشيطان أنه عدو للإنسان لا يريد له الخير ، وأن عداوته له واضحة، وأنه يأمر الناس بالسوء والفحشاء، أي بارتكاب المعاصي الكبيرة من القتل وشرب الخمر والزنا، ويأمرهم بالكفر بالله والشرك والخروج من دين الإسلام.

ومن يتأمل في سياسة يزيد وبني أمية يجد أنها كانت سياسة شيطانية أبعدت الناس عن صلاحهم وخيرهم، ودفعتهم إلى حمل الأفكار المنحرفة عقائديا، كعقيدة الجبر وغيرها، لذا جعل الإمام الحسين المسلمين أمام مسؤولياتهم الكبرى اتجاه يزيد ونظامه الفاسد، بضرورة الخروج عليه وإسقاطه، ليحفظوا دينهم وأنفسهم.

الصفة الثانية: يزيد وأعوانه يتركون الواجبات

وصف الإمام الحسين عليه السلام يزيد وأعوانه فقال : (وتركوا طاعة الرحمان )، والمقصود بترك طاعة الرحمان الترك لطاعة الله، فلا يؤدون الواجبات كالصلاة والصوم والحج وغير ذلك من التكاليف، كما أنه أيضا من الترك لطاعة الرحمان ارتكاب المحرمات من شرب الخمر والزنا، فالحاكم المستهتر بطاعة الله لا يمكن أن يكون حاكما أمينا على المسلمين، بل إن استهتاره سينعكس على الأمة، وسيكون فيها من يستهتر بدين الله.

ومن هنا ينعكس فساد الحاكم على علاقة الناس بدينهم، حيث تسوء علاقتهم به، لأنهم يقلدون الحاكم في كل شيء تأثرا به ومنها علاقته بالله، كما أن صلاح الحاكم ينعكس صلاحا على المجتمع، وأي مصلحة للناس تكمن في وجود حاكم مرتكب للمنكرات والمعاصي، كما أن الحاكم لا بد وأن يكون قدوة للناس وأسوة لهم في علاقتهم بالله.

الصفة الثالثة : أن يزيد وأعوانه من الأمويين أظهروا الفساد

إن من الصفات التي وصف بها الإمام الحسين يزيد وأعوانه أنهم : ( أظهروا الفساد )، إن من الأدلة على أن حكومة يزيد هي حكومة غير شرعية، أنها أظهرت الفساد في كل أعمالها ونشاطاتها، الفساد السياسي والأخلاقي والمالي، والإمام الحسين حينما اتهم يزيد بالفساد لم يكن ليفتري عليه، فأمر يزيد في الفساد معروف ومشهور، وليس كلام الإمام عليه السلام مجرد دعوى، بل لا يستطيع أحد أن يدعي بأن يزيدا حاكم صالح، وفِي الواقع أمر يزيد في الفسق والفجور مشهور ومعروف حتى لدى المقربين منه، وهذا مما يجعل المسلمين غير معذورين، ولا حجة لهم في عدم تلبية دعوة الإمام الحسين بالخروج على يزيد، وهنا في كلام الإمام الحسين إشارة لطيفة وهامة، وهي أن الإمام عليه السلام لم يقل عن يزيد وأعوانه أنهم فاسدون، بل قال : ( وأظهروا الفساد ) .

وهناك فرق بين أن يكون الإنسان فاسد وبين أن يظهر فساده، لأنه قد يكون الإنسان فاسدا ولكن فساده غير ظاهر وغير واضح، ولا زال مستورا، وبين أن يكون الإنسان فاسد، ولكن فساده قد ظهر عليه ولم يعد مكتوما، ومن هذا القبيل يزيد والنظام الأموي كان فسادهم ظاهرا وواضحا لدى كل الناس، لكن من يجرأ على مواجهتهم بذلك ؟ ، كما أنه يمكن أن يكون المقصود في قول الإمام أنهم ( أظهروا الفساد ) ، أنهم أظهروا الفساد في المجتمع، وليس على مستواهم الشخصي فقط، أي أنهم عملوا على إفساد المجتمع، وجعل الناس يميلون إلى ارتكاب المعاصي من خلال نشر ثقافة الإنحراف والفسق بين الناس، وكل ذلك ينطبق على يزيد، فقد كان فساده ظاهر على مستواه الشخصي، وكل الناس تعلم أنه فاسق، يشرب الخمر وتارك للصلاة ومرتكب للفجور

الصفة الرابعة : عطل يزيد والأمويون إقامة الحدود

وصف الإمام الحسين عليه السلام يزيد وأعوانه : أنهم ( عطلوا الحدود ) ، والمقصود بتعطيل الحدود، هو تعطيل العقوبات التي شرعها الله تعالى على بعض المعاصي في حق مرتكبيها ، كالزنا والقتل وشرب الخمر ومحاربة الله ورسوله والسرقة والقذف وغير ذلك ، والحكمة من تشريع العقوبات هو للحفاظ على صلاح المجتمع، والله تعالى أوجب على الحاكم إقامة الحدود لأجل ذلك، والنظام الأموي لم يطبق قانون العقوبات على المفسدين في المجتمع، وهذا دليل على عدم شرعية هذا النظام، ونسأل كيف يطبق يزيد وأعوانه إقامة الحدود، وفِي الواقع هم من يجب تطبيق الحدود عليهم.

فكان الولاة الأمويون يسرقون أموال بيت مال المسلمين، وكانوا يشربون الخمر ويرتكبون الفواحش، ويقتلون بغير حق، وكان يزيد قد أباح مدينة النبي ثلاثة أيام لجيشه بسبب رفضهم لبيعته، فقتلوا المئات من قراء القرآن ونهبوا الأموال واعتدوا على النساء، وارتكبوا المحرمات، ويزيد عطل قانون العقوبات في التشريع الإسلامي لأنه كان يجد في الجناة والمجرمين أعوانا له، فيعمل على تقريبهم منه، بعدم معاقبتهم، حتى يستغلهم ضد أي معارضة تقف في وجهه.

الصفة الخامسة : استأثر يزيد وأعوانه بالفيء

وصف الإمام الحسين يزيد وأعوانه بأنهم (استأثروا بالفيء )، الفيء هو عبارة عن الأموال التي يحصل عليها المسلمون من الكفار دون قتال، وكان النظام الأموي يستبد بأموال المسلمين الفيء والخراج والجباية، والتي هي ملك بيت مال المسلمين وتصرف على مصالحهم وما يحتاجونه من خدمات، ومن يسرق أموال المسلمين لا يكون مؤتمنا عليهم وعلى أموالهم، ومن يفقد الأمانة لا يكون صادقا في حملها، وبذلك لا يستحق أن يكون حاكما على الأمة، لأن وظيفة الحاكم أن يحفظ أموال الناس ، ولا يخفى على أحد أن بني أمية استبدوا بأموال المسلمين وصرفوها على الملذات والشهوات وبناء الدور والقصور، فوجب على المسلمين أن يخرجوا عليهم ويسقطوا سلطانهم.

الصفة السادسة : تلاعب يزيد وأعوانه بأحكام الشريعة الإسلامية

وصف الإمام الحسين النظام الأموي أنه نظام تلاعب بأحكام الشريعة، لذا إن من أسباب خروج الإمام الحسين على يزيد وبني أمية هو أنهم تلاعبوا بالشريعة، فقد دفعوا الأموال الطائلة لأصحاب الضمائر الضعيفة من الصحابة وغيرهم، ليضعوا أحاديثا كاذبة عن لسان النبي، من أجل التغيير والتبديل في شريعة الله لتتناسب مع أهوائهم، وبذلك لا يكون يزيد والأمويون حافظين لشرع الله، ولسنة النبي.

ومن المعلوم أن تعاليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم تشكل خطرا على بني أمية، فيما إذا وصلت إلى الناس ، وخاصة أنها تدعو للخروج على الحاكم المنحرف ، وهم أبرز مصداق له للحاكم المنحرف، لذا أقدموا على التلاعب بالأحاديث لتثبيت حكمهم وسلطانهم، وفي فترة حكم بني أمية تم وضع الكثير من الأحاديث الكاذبة بتوجيه منهم، والتي بلغت الآلاف، ومنها وضع أحاديث تذم أهل البيت عليهم السلام، وبالمقابل تم وضع أحاديث تمدح بني أمية، وهي غير صحيحة، لذا قال الإمام عليه السلام : ( وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله )، وهذا سبب كاف لإسقاط نظام يزيد، لأنه نظام متآمر على الدين.

المحور الخامس : الإمام الحسين أحق بالتغيير وقيادة الثورة

أشار الإمام الحسين عليه السلام في آخر الخطبة أنه أولى من غيره في القيام بعملية التغيير، لذا قال الإمام عليه السلام : ( وأنا أحق من غير )، ولهذه العبارة جملة من الدلالات الهامة التي ينبغي أن نقف عليها، وخاصة أنها ترشدنا إلى دور الإمامة في قيادة عملية الإصلاح في المجتمع ، فالإمام الحسين عليه السلام يقصد بقوله : ( وأنا أحق من غير )، أنه أولى بالتغيير والدعوة للخروج والثورة ضد النظام الأموي على مستوى القيادة، لإنقاذ الرسالة والدين، وهذه الأولوية منشأوها الإمامة المنصوص عليها من قبل الوحي، وهو عليه السلام إمام منصوص على إمامته مكلف بحفظ الرسالة والدعوة للدفاع عنها ، وهو خليفة النبي ووصيه، وهو أولى بالخروج.

لذا لا بد وأن يكون الإصلاح الحقيقي مرتبط بقيادة الإمام المعصوم، ولا إصلاح من دونه، إذا لم تنته إليه عملية الإصلاح، لذا أمر الأمة لا يصلح إلا بخروج الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، الذي سيؤيده الله وينصره لتطبيق الإصلاحات العالمية في آخر الزمان.

ومن خلال ما تقدم تبين معنا أن خروج الإمام الحسين عليه السلام، كان من أجل حفظ الرسالة، ومن أجل رفع الظلم عن المسلمين، ولإقامة نظام إسلامي عادل يحفظ حقوق الناس التي شرعها الله في الإسلام، وعاشوراء محطة تربوية لا بد من الإستفادة منها لإصلاح مجتمعنا، ولا بد ألا تقتصر عملية الإحياء على إظهار الحزن على الإمام الحسين، بل لا بد وأن نزرع الوعي في نفوس الناس بأهداف ثورة الحسين، وخاصة في الرفض للظلم وللظالمين، ونحن أمام امتحان في عاشوراء، فلا بد وأن يتطور مجتمعنا مع كل إحياء لمآتم الإمام الحسين، فلا بد وأن تظهر معالم الإصلاح والإيمان في مجتمعنا، فيزداد الإلتزام بتعاليم الإسلام ويتم التخفيف من مظاهر الإنحراف، فالإنسان الحسيني هو الإنسان الملتزم دينيا بتعاليم الإسلام والعارف بأحكام دينه.

إمام مسجد السيد عبد الحسين شرف الدين – قده – مدينة صور

الشيخ حسين إسماعيل
تم نسخ الرابط