
لا يحتاج التلوّث في البحر اللبناني إلى فحوصات علمية لإثباته. يكفي التدقيق في مجاري الصرف الصحي، ولا سيما من المدن الصناعية والمعامل، التي تصبّ في البحر مباشرةً، أو في الأنهار التي تنتهي فيه أيضاً، لإدراك مستويات التلوّث المرتفعة.
وفيما تُؤشّر الأرقام الرسمية إلى وجود 54 مصدراً للتلوّث، يشير رئيس مركز علوم البحار، التابع للمركز الوطني للبحوث العلمية، الدكتور ميلاد فخري، إلى أن هذه المصادر لا تُعبّر صراحة عن حقيقة الوضع، لافتاً في الوقت نفسه إلى أن النسبة غير ثابتة، وإن كانت تقارب 76 إلى 77 مصدر تلوث «تزيد أو تنقص من دون أن تثبت على حال».
استناداً إلى هذا الواقع، ليست كل الشواطئ آمنة وصالحة للسباحة. وهذه نتيجة يحسمها في كل عام التقرير الدوري الذي يصدره المركز، والذي خلص هذا العام إلى أن 63% من الشواطئ اللبنانية صالحة للسباحة، مقابل 37% غير صالحة، ومياهها مصنّفة ما بين حرجة وحذرة وملوّثة جداً.
بالأرقام، أثبت التقرير أن 24 موقعاً بحرياً آمنةٌ من أصل 38 يراقبها المركز عبر فحص لتحديد نسب التلوّث البكتيري في مياهها.
وهي مواقع موزّعة على طول الشاطئ من العريضة شمالاً حتى الناقورة جنوباً. وإن كان المركز يحصر التصنيف في النقطة التي تُجرى فيها المسوحات، من دون أن تشمل المنطقة ككل، إلّا أنه يصحّ اعتبارها صورة مصغّرة عن الواقع العام للشواطئ.
انخفاض أعداد الشواطئ الآمنة
واستناداً إلى الدراسة التي صدرت نتائجها أمس، لم يكن الواقع وردياً، مع خروج بعض الشواطئ من «برّ الأمان» إلى الخانة الحذرة والحرجة أو الملوّثة جداً.
أضف إلى ذلك تغيّر الأرقام بين العامين الماضي والحالي، إذ انخفضت أعداد الشواطئ الآمنة من 25 إلى 24، مع زيادة تلك المصنّفة حذرة إلى غير مأمونة من 7 إلى 8، وكذلك الحال بالنسبة إلى المواقع الملوّثة التي ارتفعت من 5 إلى 6.
ولعلّ أسوأ ما في الأمر أن غالبية تلك الشواطئ التي صُنّفت غير آمنة هي الشواطئ الشعبية، التي تُعدُّ متنفّساً للناس، ولا سيما الفقراء الذين لا يملكون ترف الذهاب إلى المسابح الخاصة.
وفي هذا السياق، تشير الدراسة إلى وجود 6 مواقع بحرية ملوّثة وغير صالحة للسباحة هذا العام، بزيادة موقع عن العام الماضي، مع انضمام منطقة المنارة/ بيروت (أسفل منارة بيروت) إلى القائمة، نتيجة انحدارها من موقع كان مُصنّفاً حرجاً العام الماضي إلى موقع بات ملوّثاً هذا العام.
ويضيف فخري إلى تلك القائمة أيضاً المسابح الشعبية الأكثر تلوّثاً ومنها طرابلس والرملة البيضاء - بيروت وضبية. ولحظ التقرير أيضاً انخفاض تصنيف الكثير من الشواطئ بين العامين الماضي والحالي، إذ إن هناك مناطق انحدر تصنيفها من جيد جداً إلى جيد (أنفة/ أسفل دير الناطور وسلعاتا / الشاطئ الشعبي والبترون/ شاطئ البحصة العام والفيدار/ أسفل جسر الفيدار والبوار/ شاطئ عام والصفرا/ أسفل شير الصفرا وجونية/ شاطئ المعاملتين)، فيما انتقل موقعان من جيد إلى حذر (شاطئ الأولي/ شمال مصب نهر الأولي) ومن جيد إلى حرج (الصرفند/ الشاطئ الشعبي). في المقابل، تحسّن واقع موقعين آخرين هما عكار/ القليعات والغازية/ الشاطئ الشعبي اللذان انتقلا من الحرج إلى الحذر.
يُشار في هذا الإطار إلى أن مصادر التلوّث ليست محصورة بمجاري الصرف الصحي، وإن كانت تأتي في رأس القائمة، فثمة تلوّث ناتج من النفايات الصلبة، ولا سيما البلاستيك، وفقاً للتقرير الحالي. وبحسب فخري، فإن مصدرها «الأنشطة البرية»، أي ما يرميه الناس، ومن ثم المكبّات العشوائية وما تسحبه مجاري الأنهر.
ولم يحمل التقرير أرقاماً مفصّلة عن البلاستيك، ولكن في عودة إلى واقع الحال العامَ الماضي، تبدو الأرقام مهولة، إذ قدّر تقرير 2024، كمية النفايات الصلبة الموجودة في كل 100 متر من الشواطئ التي خضعت للدراسة بأكثر من 10 آلاف قطعة، غالبيتها من البلاستيك!
ما الحلول المتاحة؟
لكن، بعيداً عن الصورة القاتمة للشاطئ اللبناني، ثمة جانب إيجابي، يتعلّق بالأسماك الموجودة في البحر، إذ يؤكد فخري أن جميعها آمنة، ويمكن «أن نأكل منها ع العمياني».
لا يملك المركز أكثر من قرع جرس الإنذار حول وضع الشاطئ، خصوصاً الأماكن التي يقصدها الناس للسباحة. فلا صلاحية له، وجلّ ما يمكن أن يقوم به هو توسعة عينة الفحص، ولكن حتى هذه الأخرى «دونها كلفة مادية ولوجستية».
ويلفت فخري إلى إضافة المركز هذا العام «محطة جديدة في العباسية وهي المحمية والتي كانت نظيفة جداً»، متمنّياً أن تكبر القائمة لتقديم صورة أكثر شمولية عن واقع الشاطئ.
ويشير إلى دور السلطات المحلية في التنبيه من السباحة في الأماكن غير الآمنة، عبر وضع لافتات تنبيهية على الأقل، إذ إن الحدّ الأدنى في ظلّ غياب الرقابة والقدرة على معالجة شاملة، هو تجنّب السباحة في المواقع الملوّثة جداً.
ويفتح هذا التقرير، في كل مرة، الباب واسعاً على حال محطات التكرير المعطّلة عن العمل، فهذه الأخيرة وحدها كفيلة بتحسين نوعية المياه، إذا أعيد تشغيلها و«تحويل كل مجاري الصرف الصحي وحتى مخلفات المصانع وغيرها في مكان واحد، بما يعيد الحياة إلى البحر»، وفقاً لفخري.