الشيخ علي الخطيب: واقعة كربلاء تجسيد واقعي لحقيقة التناقض بين مفهومي الحق والباطل

ألقى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الاعلى سماحة العلامة الشيخ علي الخطيب كلمة في المجلس العاشورائي الذي تقيمه جمعية التعليم الديني الإسلامي في قاعة الجنان في ثانوية البتول ع بحضور حشد من علماء الدين والشخصيات والفعاليات السياسية والتربوية و الاجتماعية ، وقال سماحته في كلمته: بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله الطاهرين واصحابه المنتجبين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين والشهداء والصالحين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
واقعة كربلاء وشهادة الامام الحسين (ع)، تجسيد واقعي لحقيقة التناقض بين مفهومي الحق والباطل، فكما ان الحق والباطل يمتنع بل يستحيل اجتماعهما في عالم المفاهيم كذلك في عالم الواقع الموضوعي، لأن العالم الموضوعي ليس إلا انعكاساً لعالم المفهوم، فما يستحيل مفهوماً يستحيل واقعاً.
ولهذا، فإن الانسان العاقل لا يقدم على الفعل إن كانت الصورة لديه مستحيلة التحقق، وعالم المفاهيم سابق رتبة عقلية على عالم الوجود والتحقق، والبحث عن الاستحالة والامكان لدى الفلاسفة سابق على عالم التجربة والواقع وليس الحكم بالاستحالة والامكان نتيجة للتجربة والتجربة تأتي بعد الحكم بالإمكان.
واذا كان الحق والباطل نقيضين لأن الباطل هو عدم الحق، فالحق أسبق وجوداً في عالم الاعتبار من وجود الباطل وحتى في عالم الوجود والتحقق، فإن وجود الله تعالى وهو الحق المطلق أزلي لم يسبق بعدم وحتى التعبير عن الباطل بأنه عدم الحق وبالزخرف في الكتاب العزيز، وانه لا يأتيه الباطل من بين يديه وخلفه تعبير عن هذه الحقيقة والحق هو ما له التحقق والثبات دون غيره، وقد عبَّر الشاعر عن هذا المعنى بقوله: وكل شيء ما عدا الله باطل.
والنقيضان متساويان رتبة في عالم التصور والوجود الذهني، فلا يُتصوَّر الحق من دون تصوّر الباطل ولا تصوّر للباطل من دون تصوّر الحق.
لقد ابتدأنا الحديث عن تحديد هوية كربلاء بأنها صورة من صور الصراع بين الحق والباطل الممتد منذ أن خلق الله الانسان وانعكاس واقعي للتناقض المفهومي بينهما، بل إن بدء هذا الصراع حصل منذ ان كشف الله تعالى عن إرادته خلق آدم، فالصراع يبدأ أولاً من النفس الشريرة التي تكره الحق، وهو ما حصل مع ابليس قبل وجود آدم، وبمجرد إخبار الله تعالى للملائكة بأنني خالق بشراً من طين وان عليهم الخضوع له وتكريمه بالسجود له، فالصراع يبدأ من النفس بكن الكره فيها ثم بعصيان الامر الالهي ثم المكر وتدبير السوء بإخراجه من عالم النفس الى عالم الفعل.
فالحقّ في عالم الوجود هو كل ما يتوافق وينسجم ويرتبط بالارادة، فالمنطلقات والاهداف والوسائل التي تستخدم فيها إلهية أيضاً، والباطل هو الرفض لها ومعاندتها ومجابهتها في المنطلقات والاهداف والوسائل.
فالصراع بين أهل الحق وبين اهل الباطل في حقيقته هو صراع بين المباديء والقيم التي يتبناها كل طرف من اطرافه ينعكس في الوسائل، واذا كانت المنطلقات حقة ونظيفة فيجب ان تكون الوسائل كذلك، ولا يصحّ في الصراع لأهل الحق ان تكون الوسائل التي تُستخدم منهم في هذا الصراع الا كذلك، وأن تكون منسجمة مع المباديء التي يصارعون من اجلها.
ولذلك لا تصح المقولة الميكافيلية (ان الغاية تبرر الوسيلة)، فهي تعتبر ان لا مشكلة في التناقض بين الوسيلة وبين الغاية طالما ان الغاية نظيفة، ولكن في عالم القيم هناك تناقض بين عنوان الوسيلة وبين عنوان الغاية، فإذا كان عنوان الوسيلة باطلاً فلا يصح استخدامها لغاية نبيلة ومشروعة.
ومن هنا نجد ان الانسجام كان تاماً في الثورة الحسينية بين المباديء والوسائل في النظافة والحق على خلاف السلطة الاموية التي كانت منسجمة ايضاً في مبادئها ومنطلقاتها واهدافها في الباطل، ففي منطلقاتها كانت جاهلية عصبية قبلية تبتغي الحفاظ على مكاسبها في السيطرة والوجاهة والنفوذ وفي وسائلها لم تدع وسيلة قذرة من الوسائل للانتصار على الخصم الا واستخدمتها من التضليل والتشويه والارهاب والنفاق بإسم الدين، ومن المؤسف انها كانت واضحة في بعض من الوقائع في التعبير عن أهدافها بشكل لا لُبس فيه، غير ان من كانت لديهم مصالح منسجمة معهم عملوا على تبرير جرائمهم، أما ثورة الامام الحسين (ع) فقد كانت واضحة الاهداف فلم تلبس على الناس ولم تستخدم التشويه والتضليل.
إنّ التناقض بين والحق والباطل تناقض تام في المباديء والاهداف والوسائل ولذلك فإن الصراع بينهما كان صراعا وجوديا ولم يكن هناك من امكانية للصلح بينهما وانه كان لا بد لاحدهما ان ينفي الاخر وان التاريخ عبارة عن وقائع متجددة لهذا الصراع المستمر باشكال متعددة يسجل الانتصار فيه للحق فالباطل يبقى باطلا والحق يبقى حقا ويومئذ يخسر المبطلون قد يستطيع الباطل ان يربح جولة في الصراع العسكري ولكنه بحساب القيم يبقى خاسرا اما الحق فيبدو احيانا انه الخاسر في بعض الوقائع العسكرية ولكنه هو المنتصر دائما بالحسابات المعنوية وانما يخسر اصحاب الحق لتخليهم عن حقهم اما الحق فهو يسجل انتصاره دائما لانه لن يستطيع المبطلون ان يغيروا من حقيقته
إنّ الصراع في حقيقته صراع بين اهل الحق واهل الباطل وعندما ينتصر اهل الباطل فلا يعني ذلك انتصار الباطل، فإن الباطل يبقى باطلاً والحق يبقى حقاً وإن هُزم اهله (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ).
إنّ الهزيمة اذا حصلت فإنما يعود السبب الى تقصير اهل الحق، اما النصر فإن الله ينصر من يشاء اذا قام اهل الحق بكل ما عليهم القيام به وأهمه الاعتقاد الجازم بأن النصر من الله.
(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ).
والله هو الحق وصاحب الحق فلا خوف على الحق وإنما يُمتَحن به اهله (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).
لقد اوضحت السيدة زينب (ع) بطلة كربلاء بحق هذا المعنى بأقصر عبارة عندما ردت على يزيد وهو يتبجح بقتله الحسين معتبراً نفسه منتصرا قائلاً لها: أرأيت كيف فعل الله بأخيك؟ فردت عليه بقولها:(والله رأيتُ إلّا جميلاً، هؤلاء قومٌ كتب الله عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجّون إليه وتختصمون عنده، فانظر لمن الفلجُ يومئذٍ، ثكلتك أمّك يابن مرجانة!!
فهل هذا جواب المنتصر ام المهزوم؟
لقد ادرك يزيد بهذه الكلمة انه المهزوم وان الحسين هو المنتصر.
فقد تبدو الامور في ظاهرها على غير حقيقتها ولكن الواقع شيء اخر.
لقد رسخّت الثورة الحسينية هذه الحقيقة وقلبت الموازين التي حاول اهل الباطل ترسيخها وما زالت تفعل فعلها رغم مرور الزمن، فإن مرور الزمن لا يأتي عليها وإنما يزيدها نصاعةً ووضوحاً حيث نتابع اليوم وقائع كربلاء في مظهرها الجديد في معركة الحق الذي يحاول الغرب الكافر بالقيم والاخلاق أن يظهر بمظهر المنتصر متبنياً منطلقات واهداف يزيد في معركة الامة بنفس الوسائل من الكذب والتشويه ومحاولة قلب الحقائق والمفاهيم والقتل والابادة ففضحته المقاومة وفضحه اهلها المتمسكون بها رغم ما اصابهم من ويلات هذا العدو واظهروه على واقعه وحقيقته المنافقه في رفعه الشعارات الانسانية التي لم تكن الا تضليلاً، واعطت لأهل الحق مزيداً من القوة والصلابة والايمان بالمستقبل القادم والنصر الاتي بإذن الله، وهو ما يجب ان ينعكس على تعاطي الممسكين بالسلطة في العالم العربي التماسك والقوة في مواجهة الغرب واتباعه وطلباته وان يعتمدوا على قوة شعوبهم وقوة حقهم.
وكذلك على السلطة الرسمية في لبنان أن تعتمد على قوة شعبها في الوقوف بهذه الارادة الصلبة في افشال مخططاته، وان تنسجم مع شعبها في قوة القرار امام الضغوط الامريكية، وأن تقف بصلابة فلا تخضع لإملاءاته الذي يأتينا بها عبر مبعوثيه وعبر مندوبيه، وأن تُصرّ على حقها في إخراج العدو من المناطق المحتلة وتطبيق القرار الدولي التي سعت الى الاتفاق على تنفيذه ثم تحاول التخلّص من التزاماتها وتحاول فرض الهزيمة على الحكومة اللبنانية وعلى الدولة اللبنانية وعلى لبنان، وهي ما عجزت الولايات المتحدة الأمريكية والعدو الاسرائيلي عن تحقيقه في الميدان ولو كانت قادرة على ذلك لما توانت عن تحقيقه ولما لجأت الى هذا الاتفاق ودعت الى القبول بالقرار 1701، اعتمدوا على قوة شعبكم ومقاومته التي ابدعت في ايلامه واجباره على طلب وقف اطلاق النار .
فالسلطة هي التي تتحمّل اليوم مسؤولية تحرير الارض ومنع العدو من الاستمرار في العدوان وخرق الاتفاق ولهذا ستكونون غداً تحت المسؤولية وسيحاسبكم شعبكم عن التزاماتكم، ونقول لهم مرة أخرى للاسرائيليين وللأميريكيين: وإن عدتم عدنا نحن جميعاً مقاومة، كلنا مقاومة.
(وان عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً ).
الحمدلله رب العالمين الذي أكرمنا بولاية أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب وأبنائه الطاهرين ومن الذين يحيون أنفسهم بإحياء عاشوراء ومعاني عاشوراء وقيم عاشوراء الذي أنتجت لنا في هذا العصر هذه الصورة الكريمة التي سيسجلها التاريخ بأحرف من نور.
