السبت 12 تشرين الأول 2024 الموافق 09 ربيع الثاني 1446
عاجل
آخر الأخبار

مصر وإيران.. متى يُقرع جرسُ التطبيع؟ بقلم د. مهدي عقيل

ياصور
برغم طول القطيعة بين مصر وإيران منذ أربعة عقود ونيف، ثمة أسباب موجبة لإستئناف العلاقات بين البلدين، لكن الأسباب المانعة ما زالت هي نفسها. هل ثمة أمل بعودة العلاقات على وقع الحوار القائم بين البلدين برعاية بغداد، حسبما صرح وزير خارجية العراق فؤاد حسين؟

إذا عُدنا إلى تاريخ العلاقة بين طهران والقاهرة، نجد أنها قد قُطعت مرتين في التاريخ الحديث؛ الأولى، عام 1960 بقرار مصري احتجاجاً على اعتراف الشاه محمد رضا بهلوي بإسرائيل، والثانية، عام 1980 بقرار إيراني (الثورة الخمينية) احتجاجاً على إعتراف مصر بإسرائيل من خلال توقيعها معاهدة كامب ديفيد. واقع إستمر 11 عاماً إلى أن قرر الجانبان وضع العلاقات على سكة تمثيل جزئي (قائمان بالأعمال ومكتب مصالح).

بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية عام 1988، ورحيل الإمام الخميني في العام التالي، حلّ حكم “الدويكا” في إيران متمثلاً بخليفة الخميني السيد علي خامنئي ورئيس الجمهورية علي أكبر هاشمي رفسنجاني. معهما تخففت إيران من “عقلية الثورة” لمصلحة “عقلية الدولة”، حيث رفع الأخير شعار بناء ما هدّمته الحرب وتقلّد لغة المصالح والتطلّع إلى أفضل العلاقات مع الدول العربية ولا سيما الدولة المصرية التي تحظى باهتمام كبير لدى صنّاع القرار في طهران، كما لدى الشعب الإيراني الذي تربطه علاقات تاريخية بالشعب المصري، فالشعبان لعبا دوراً مميزاً في صنع الثقافة العالمية، وبقيت النافذة الثقافية هي الأكثر انفتاحاً ونشاطاً بين بلديهما في ظل القطيعة الدبلوماسية منذ 42 عاماً حتى يومنا هذا.

وتدرك القيادة الإيرانية جيداً أهمية الركيزة المصرية، تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً؛ مكانة وموقعاً ودوراً؛ عربياً وإسلامياً وأفريقياً ومتوسطياً؛ وما تمتلكه مصر من إرث حضاري وثقافي عريق ومكانة جيوسياسية، فضلاً عن أنها تشكل ركيزة من ركائز أمن واستقرار دول المنطقة وبوابة للقارة الأفريقية. إذ تشكل مصر حلقة وازنة بين كبرى الدول الإسلامية، نظراً إلى موقعها الجغرافي والسياسي. فعلاوة على نفوذ مصر في الاتحاد الأفريقي ومنظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية، فإنها تتمتع بموانئ عدة على البحرين الأحمر والمتوسط.

وفي المقابل، لإيران ـ الركيزة أهمية مماثلة تجاه مصر، فأهمية إيران تكمن في موقعها الجغرافي المميز في منطقة الخليج، وقربها من آسيا الوسطى وجمهوريات القوقاز وإحتلالها موقعاً إستراتيجياً في “طريق الحرير”، وامتلاكها موارد هائلة من النفط والغاز، واتساع أسواقها التي يمكن أن تستقبل البضائع المصرية. وثمة مجالات متنوعة للتعاون في حال تطبيع العلاقات بين البلدين، تأتي السياحة في مرتبة متقدمة، ولا سيما السياحة الدينية، حيث هناك 10 ملايين إيراني يرغبون في زيارة الأماكن الدينية بمصر سنوياً.

لكن، وبرغم إدراك الطرفين أهمية كل منهما للآخر، خصوصاً أنه ليس ثمة حرب أو نزاع حدودي بينهما، ظلّت علاقاتهما الدبلوماسية عند حدود مكتب رعاية المصالح الذي تم افتتاحه عام 1994، علماً أن تلك الفترة قد شهدت بعض التعاون الاقتصادي والثقافي، وتكررت خلالها اللقاءات بين كبار المسؤولين في البلدين.

وثمة من يُحيل أسباب تعثر العلاقة بين البلدين إلى الخشية المصرية من إمكانية تأثر البيئة المصرية بحركة التشيع أو التبليغ الديني الذي يتولى القيام به رجال دين شيعة محسوبين على الجمهورية الإسلامية حسب الرواية المصرية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، زيارة الشيخ اللبناني علي كوراني المقيم في مدينة قم الإيرانية إلى مصر في أيار/مايو 2012 وافتتاحه أول حسينية للشيعة في القاهرة، الأمر الذي لم تستسغه مشيخة الأزهر ووضعته في خانة محاولة نشر التشيع بين أوساط الشعب المصري، لا سيما بين أتباع المذهب الشافعي (أكثر المذاهب الإسلامية انتشاراً في مصر) القريب من المذهب الجعفري، علاوة على تماهي المصريين بصورة عامة مع الشيعة في حبهم لأهل البيت.

وثمة من يحيل أسباب تردي العلاقة في الجانب السياسي وحسب إلى إعتبارات تبدأ من واشنطن ولا تنتهي في الرياض مرورا بتل أبيب. إلا أن واقع الحال، أن مصر منذ عودتها إلى الحاضنة العربية إثر غزو العراق للكويت عام 1990، ومشاركتها في عملية “التحرير”، عادت لتتقلد دورها السابق بحدود معينة، كدولة معنية بأمن واستقرار كل الأقطار العربية. وباتت أرض الكنانة، لا سيما بعد ثورة 25 يناير، أسيرة المحافظة على دفء العلاقة مع دول الخليج التي شكلت داعماً رئيسياً للدولة المصرية، سواء لناحية تقديم المعونات والقروض المالية، أو لناحية الاستثمارات الخليجية في مختلف المشاريع التي ساهمت بصورة كبيرة في تدعيم الاقتصاد المصري، قبل أن تلوح علامات المرض في الآونة الأخيرة وصولاً إلى التحذير من “سيناريو لبناني”.

وعليه، لا يمكن لمصر أن تقرأ أو تقارب علاقتها بإيران دون الأخذ بالاعتبار مصالح وهواجس ومخاوف دول الخليج العربية، وطالما أكدت قيادتها، سواء قبل ثورة 25 يناير، أي في زمن الرئيس حسني مبارك او بعده، أن أمن الخليج جزء لا يتجزأ من الأمن القومي المصري. والرئيس الحالي، عبد الفتاح السيسي، أكثر التزاماً بهذه القاعدة من سلفه مبارك.

وثمة من يُردد أن مبارك كان يجيد إدارة اللعبة السياسية مع دول الخليج، حيث أبقى على العلاقة مع إيران في الحدود التي تسمح له بجعلها ورقة ضغط في علاقته بالخليج وأميركا وإسرائيل، فلا هي قطيعة دائمة بدليل التواصل واللقاءات التي كانت قائمة بين الطرفين، ولا هي علاقات طبيعية بدليل إثارة المشاكل من حين لآخر.

وفي المقابل، تعرف القيادة الإيرانية أن الطريق إلى مصر لا بدّ من أن يمر في الخليج، وثمة ملفات كثيرة ورئيسية تتعلق بسياسات إيران في الإقليم تستدعي المعالجة قبل الشروع الجدي في تطوير العلاقة بين البلدين. وتعرف أيضاً أهمية ومكانة مصر في العالم العربي والإسلامي، لا سيما من الناحية الدينية، إذ يُعتبر الأزهر الشريف في مصر المؤسسة الدينية الأبرز على الساحة الإسلامية، ويشكل القدوة في فهم الإسلام وروحه السمحة البعيدة عن التطرف والتعصب المذهبي. وربما المؤسسة الإسلامية (السنية) الوحيدة التي تعترف بشكل رسمي بالمذهب الجعفري (المذهب المعتمد في الدستور الإيراني) وتدرّسه في جامعتها إلى جانب المذاهب السنية الأربعة (الحنفي، المالكي، الشافعي والحنبلي).  ولمشايخها، لا سيما محمد مصطفى المراغي ومحمد شلتوت، مع علماء مدينة قم الإيرانية، صولات وجولات في معالجة الخلافات والاختلافات المذهبية منذ أربعينيات القرن الماضي، حيث عملوا آنذاك على تأسيس “دار التقريب بين المذاهب الإسلامية” في العام 1948.

يُحيلنا هذا الإستعراض إلى إستنتاج مفاده أن إيران إذا أرادت حليفاً في المنطقة يمنحها المشروعية السنية، فلن تجده لا في السعودية التي تعتنق المذهب الوهابي النقيض للمذهب الجعفري، ولا في تركيا الإخوان المسلمين، ولا حتى في مصر الإخوان المسلمين (أثناء حكم الرئيس محمد مرسي 2012-2013). لن تجده إلا في مصر الأزهر الشريف. مع العلم أن فكر جماعة الإخوان المسلمين وطروحات منظريها من السيد قطب وغيره، لم يكونوا بعيدين عن رؤى وأفكار الثورة الإسلامية. لكن إيران كانت قد اختبرت سنة حكم الإخوان (2012-2013) اليتيمة في مصر، وخصوصاً مواقف الرئيس محمد مرسي إبان زيارته إلى طهران لحضور قمة عدم الانحياز في 28 آب/أغسطس 2012، وخطابه المذهبي هناك وتمنّعه عن لقاء المرشد السيد علي خامنئي.

بالمقابل، لا تستطيع الدولة المصرية أن تبقي جوابها على سؤال العلاقة مع إيران مؤجلاً حتى إشعار آخر، كذلك لا يمكن أن تبقى أسيرة إعتبارات الآخرين، سواء أكانوا من أهل الإقليم أم أبعد منه. لذلك، لم يعد من الممكن تجاهل دولة بحجم إيران وما تملك من تأثير بارز في أربع عواصم عربية، ونفوذ مُعتبر في مضيق هرمز، فضلاً عن أنها مرشحة لأن تكون “دولة نووية” معترف بها دولياً إذا تمكنت من إعادة الإعتبار إلى إتفاق العام 2015. ويكفي ان ينجح الحوار القائم بين السعودية وإيران ليكتمل عقد التصالح والتقارب بين دول الخليج العربية مجتمعة وإيران. وتحت عنوان “الحوار مع إيران الآن وليس غداً، يروي الكاتب المصري عبدالله السناوي أنه فى حوار مع وزير الخارجية المصري سامح شكرى عقب صعوده إلى منصبه عام 2014 قال الأخير له حرفياً: «أنا مع عودة العلاقات مع إيران.. لكن ليس الآن». يضيف “بعد نحو ثمانى سنوات، فإن السؤال الإيرانى يطرح نفسه مجددا بأوضاع مستجدة وعاصفة: «متى تعود العلاقات؟ ما نقاط الاتفاق والاختلاف؟ كيف نسد الفجوات ونؤسس لأوضاع أكثر عدالة فى الإقليم المضطرب؟"

لا يُعطي الخبير المصري في الشأن الإيراني، د. محمد السعيد إدريس لموقف دول الخليج الأهمية الأساسية كمانع لعودة العلاقات المصرية الإيرانية بقدر ما يحيل الأمر إلى الموقفين الأميركي والإسرائيلي، إذ يعتبرهما “محددان مهمان؛ فلا أميركا ستسمح ولا إسرائيل ستسمح بتبدل منظومة التوازن الإقليمي”. ويضيف “دول الخليج وخاصة السعودية والإمارات والبحرين لن يقبلوا بإيران قوة إقليمية مسيطرة. هم مثل إسرائيل ضد الاتفاق النووي وضد المشروع الإقليمي الإيراني وضد إيران قوة إقليمية معترف بها. تقربهم الحالي لمجرد درء المخاطر، لكنه أقرب أن يمنع استمرار العمل ضد إيران”.

ويقول محمد السعيد إدريس لـ180post “أميركا قبلت إضطراراً بالاتفاق النووي لكنها لن تسمح بتحويله إلى قوة بيد إيران، وستعمل على محاصرتها وتقليص استفادتها من الاتفاق. أما إسرائيل فحدث ولا حرج. مصر تضع هذا كله في الاعتبار لذلك هي تتريث في خطوات تفاهمها مع إيران”. ويرى إدريس ان من واجب طهران “أن تقدم حوافز مغرية تتجاوز كل المخاوف والتحسبات”.

في المحصلة، إيران معنية بترتيب علاقاتها مع الدول العربية على نحو يتيح للأخيرة تجاوز هواجسها ومخاوفها الأمنية من المشروع الإيراني في المنطقة، فمن شأن ذلك تخفيف أو إزالة هم عدم استقرار الأمن العربي عن كاهل مصر المطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى لأن تبادر للقيادة، وتستعيد زمام المبادرة، وأن تُفهم الصديق قبل العدو ان علاقاتها بأية دولة لا يجوز أن تقيد علاقاتها بدولة أخرى.

مصر دولة إقليمية كبرى لها مصالحها مع الجميع وللجميع مصالح معها. وأن تعدد العلاقات وتنويع الخيارات لا يصب فقط في مصلحة مصر إقليمياً، بل أيضاً سيكسبها أهمية في نظر العواصم الغربية الرئيسية والإدارة الأميركية أيضاً. مصر بحاجة إلى مقاربة مختلفة لعلاقاتها الإقليمية، والأمر لا يقتصر على علاقتها مع إيران، كذلك بالنسبة لدولة مثل تركيا التي قطع رئيسها رجب طيب أردوغان شوطاً مهماً في تطبيع علاقاته مع دول الخليج العربية، وهو على علاقة “تقريرية” في الإقليم مع إيران. صحيح أن بين مصر وتركيا أكثر من قضية تستدعي المعالجة، سواء فيما خص تحول الأخيرة إلى معقل للإخوان المسلمين، أو فيما خص النفوذ التركي في ليبيا. لكن وتيرة التواصل بين الدولتين لا يمكن أن تستمر على هذا المنوال، وإلا سوف تبقى مصر في آخر قائمة الدول العربية المُطبعة علاقاتها مع أبرز دول الإقليم؛ تركيا وإيران.
تم نسخ الرابط