من ذاكرة صور المقاوِمة ... يوم قتلت اسرائيل سبعة اطفال ووالدهم من آل حاجو في الحارة القديمة
وفي مدينة تعاقب عليها الغزاة والطغاة عبر التاريخ واذلتهم جميعهم رغم جسامة ما قدمته من تضحيات، كان النصر دوماً حليفها وكانت حياة العزة والكرامة ابداً مقصد ابنائها واهاليها، ولطالما اضافت الى دفاتر خلودها قوافل من الشهداء والابطال والمقاومين والمجاهدين والمناضلين ممن حُفرت اسماؤهم للابد على الصخور الازلية التي تقوم عليها مدينة صور، ربيبة التاريخ وبنت البحر البكر ....
نفتح اليوم جرحاً من الماضي لم يندمل في قلوب اصحابه، شباك ذكريات الى مأساة حزينة راح ضحيتها عائلة بأكملها مؤلفة من والد وابنائه السبعة فيما نجت الام ورضيعها وجنين في احشائها .... انها عائلة الشهيد جميل فضل حاجو ...
ولكن ماذا عن حكاية المأساة ؟؟ قصدنا الحارة القديمة والتقينا الزوجة والوالدة السيدة سمحية كعور ارملة الشهيد جميل حاجو، والناجية الوحيدة من المجزرة الصهيونية مع ابنها فضل الذي كان حينها رضيعاً يبلغ من العمر سنة واحدة لتروي لنا الحكاية ..
بعينين غائرتين يسكنهما حزن عتيق ويجري فيهما دمع ما جفت منابعه منذ ذاك اليوم المشؤوم في السادس من حزيران 1982 تعتدل السيدة سميحة كعور في جلستها وتتنهد بحرقةٍ وأسى، ثم ينطلق صوتها حزيناً متهدجاً وتروي لنا الحكاية:
كانت عائلتي تتألف من زوجي جميل حاجو (1947) وثمانية ابناء هم: جهاد (1967)، محمد (1969)، فاتن (1970)، عباس (1972)، مصطفى ( 1973)، خضر (1974)، علي (1976) وفضل (1981)، كما كنت حاملاً بإبنتي زينب، وكنا نسكن في بيت عتيق من بيوت الحارة يجمعنا بالحب والامان ودفء الامل، وكان زوجي بحاراً متواضعاً يعمل كل يوم بيومه ليؤمن قوت عائلته، كنّا سعداء وقنوعين ...
في ذلك اليوم المشؤوم 6 حزيران 1982 وصلت قوات الاحتلال الاسرائيلي الى مشارف صور وطلبت من ابناء المدينة الاستسلام والتوجه الى شاطئ الاستراحة والقت مناشير فوق المدينة والحارة القديمة تدعو للاستسلام في مهلة ساعات قليلة ...
في ذلك الصباح كنت قد تركت المنزل مع رضيعي فضل وتوجهت الى منزل جارتي الذي يبعد بضع عشرات من الامتار عن منزلنا لاحضار بعض الحاجيات على امل العودة سريعاً الى اطفالي، وكان والدهم قد عاد من البحر بعد تجهيزه لمركبه الجديد، وكان فرحاً به ويأمل ان تتحسن مواردنا بواسطته.
ما هي الا دقائق حتى بدأت القذائف الصهيونية تنهمر عشوائياً كالمطر على بيوت الحارة، وضاعت معالم الازقة القديمة بغبار القذائف والدمار ورائحة البارود، واتى من اصطحبنا من منزل جارتي الى الملجأ الوحيد قرب نادي التضامن وقالوا لي ان عائلتي بخير وانهم ذهبوا الى شاطئ الاستراحة، ومن الملجأ اخذوني مع رضيعي فضل الى الاستراحة، وهناك لم اعثر على اثر لزوجي واولادي ...
شعرت ان في الامر خطباً كبيراً وكان قلبي يحدثني ان مصيبة كبيرة قد وقعت، وتعزز شعوري بنظرات الناس، ثم بتعاطفهم المفرط، الى ان جاء من يخبرني ان الاعمار بيد الله، وان قذيفة سقطت في منزلنا بشكل مباشر ودمرته تماماً وان زوجي واولادي السبعة استشهدوا جميعهم ...
صعقت من هول الفاجعة وغبت عن الوعي لساعة او اكثر، وعندما استفقت مجدداً كانت حياتي قد تغيرت وكان الحزن العميق قد استوطن قلبي منذ تلك اللحظة والى الابد ...
تتابع السيدة سميحة كعور فيما دموعها تتساقط على وجنتيها:
نجوت انا وابني فضل وجنين في احشائي وضعتها بعد شهرين وهي زينب (1982)، اما جثامين زوجي وابنائي الشهداء فظلت تحت ركام المنزل المدمر لثلاثة اشهر بأكملها، وحين جاؤوا ليستخرجوا الجثامين ويدفنوها، لم يعثروا على جثماني فاتن ومصطفى، وهما ما زالا حتى اليوم تحت ركام المنزل الذي لم يزل انقاضاً ولم يبادر احد لرفع الانقاض، فلربما يتم العثور على رفات فاتن ومصطفى ويدفنان بشكل لائق.
اما الملفت ان "فلوكة" زوجي الجديدة قد دمرت تماماً ايضاً في ذات اليوم الذي استشهد فيه بعدما اصابتها قذيفة مباشرة.
تضيف:
استأجرت منزلاً آخر قرب منزلنا المدمر وعشت فيه انا وفضل وزينب تحت سقف الحزن والفقر والحسرة، وكان مجرد النظر الى المنزل المدمر يشعل في قلبي نيران لا تخمد، ولكن الحمدلله على كل شيئ، ها نحن اليوم نتابع حياتنا ولو في حدها الادنى واملي ان يجمعني الله مع اولادي وزوجي الشهداء في جنان نعيمه ...
تختم: في ايام موحشات يخنقني الحزن ويقتلني الحنين، فأرى طيفي يجول في ارجاء البيت العتيق، اتفقد ابنائي الشهداء، اراهم نياماً، اشمهم، اقبلهم، امسح بيديّ على شعورهم، اشد الغطاء على اجسادهم الطرية لاقيهم برودة الوحشة، واستودعهم الله على امل اللقاء .....
ـــــ السيدة سميحة كعور وولدها فضل ـــــــ
ـــــ ما تبقى من صور الشهداء تحت انقاض المنزل المدمر ــــــ