كادوا كيدهم ولن يمحوا ذكرك .. وفاء بيضون
في حديث للإمام المغيب السيد موسى الصدر لمجلة اليقظة الكويتية في 13 كانون الثاني 1975، رداً على سؤال هل أنت ثائر؟ .. يجيب الإمام : ليتني أستطيع إنقاذ جميع المحرومين في العالم.
مر على هذا الكلام ثمان وأربعون عاما ونحن اليوم أمام خمسة وأربعون عامًا مرت مثقلة على اختطافه مع رفيقيه سماحة الشيخ محمد يعقوب والصحافي السيد عباس بدر الدين.
خمس وأربعون عاماً مرت مثقلة بالهموم والشجون، بفعل جريمة ارتكبها نظام معمر القذافي والتي سميت بجريمة العصر كونها غير مسبوقة لا في الأعراف ولا في تاريخ العلاقات الدولية ، اذ يتم التآمر على ضيوف حضروا إلى ليبيا بدعوة رسمية.
الامام موسى الصدر ذاك الامام المميز بكل التفاصيل الذي عمل بإخلاص في مسيرة الدفاع عن الأرض والإنسان ، انتصر للقضية الفلسطينية وللمحرومين في لبنان والعالم وأينما تكون القضية قضية .
و إن دلت جريمة الاختطاف على شيء فإنما تدل على حجم التآمر على الإمام الصدر رغبة منهم بإخفاء المشروع الذي سعى إليه منذ اللحظة الأولى لانتقاله إلى لبنان أواخر العام 1959.
لقد ارتكز الإمام الصدر إلى ثنائية حكمت تحركه في مسيرته : مواجهة العدوان الإسرائيلي وإزالة الحرمان ، و هي رؤية شكلت خلفية للناس من خلال مواقف الإمام في اللقاءات الشعبية والمنتديات الإقليمية ومواقفه في المهرجانات (إسرائيل شر مطلق) ودعوته التي لم تتوقف لتأسيس المقاومة وتفعيل دورها لدرء مخاطر العدو ودعم القضية الفلسطينية وثورتها ، كما يقول الإمام : ( إذا تخلى المسلم أو المسيحي عن القدس فهو يتخلى عن قرآنه وإنجيله ) .
وجد الإمام الصدر أن هناك تلازما ما بين مواجهة العدوان الصهيوني وإزالة الحرمان لتعزيز صمود المجتمع المقاوم الذي حاولت السلطة اللبنانية عبر عهود متتالية التعبير عنه بغياب الحماية والرعاية وبإشاحة النظر عن تأمين حتى أبسط حقوق المواطن.
وحسب تعبير بعثة ” إرفد ” ورئيسها الأب لوبريه وبعد دراسات معمقة لهذه البعثة خلص في بداية الستينات إلى أنه في لبنان فئة تعيش كأنها في زمن النبي إبراهيم ، وفئة كأنها من أغنياء كاليفورنيا. لذلك جاء الإمام الصدر وفي جعبته عمل رؤيوي على مستوى كل لبنان محطما جميع السدود والحواجز المفتعلة بين الطوائف والمذاهب والمناطق والأماكن ، وحمل قضية المحرومين والمعذبين إلى المساجد والكنائس والمنتديات والمؤتمرات واللقاءات العامة والمهرجانات وكانت هيئة نصرة الجنوب وما تضم من كبار رجال الدين وشخصيات وطنية من جميع الطوائف، وصدح باسم الله قسما وعهدا: (لن نسكت ما دام في لبنان محروم واحد أو منطقة محرومة).
ولأن عملية الإصلاح في لبنان تتطلب إصلاحاً بنيويا في ظل أزمة الحكم والنظام التي أنتجت حرب السنتين وأدت الى شلل الدولة، بادر الإمام وبتوقيعه الى طرح مبادرتين سميتا ورقتي العمل الصادرتين عن المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى.
الورقة الأولى بتاريخ 27/11/1975 وهي منبثقة من جوهر وجود لبنان، وهي مطالب ليست عارضة أو طارئة، وليست مطلب فئة دون أخرى من اللبنانيين بل هي منبثقة من جوهر وجود لبنان ومن صميم كيانه ومن رسالته إذ يتصور الإمام الصدر أن لبنان المستقبل هو لبنان اللاطائفية، لبنان الكفاية في الفرص والمساواة في العدالة ، لبنان المتطور المبادر لبنان الملتزم بالقيم هو لبنان إلغاء الطائفية السياسية.
أما الورقة الإصلاحية الثانية والتي صدرت عن المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في 11/5/1977 فقد أدرجت وتحدثت بالتفصيل عن الموضوعات التي أثارتها الوثيقة الأولى من اقتراحات تنظيم السلطات بدءاً من السلطة التشريعية إلى السلطة الإجرائية إلى السلطة القضائية والتي تطرقت أيضاً إلى سير إدارة الدولة والوظائف وسبل التنمية لإنصاف المناطق المحرومة ، إضافة إلى السياسات الدفاعية والتربوية والاقتصادية والإجتماعية والإعلامية.
كان الإمام الصدر يعتقد تماماً أن لبنان هو النموذج الحضاري للعالم للعيش الواحد بين طوائفه ومذاهبه، وهذا بمثابة تحد للعدو الصهيوني الذي يروج إلى انعدام تعايش الأديان في المنطقة ، كي يبرر هذا العدو نفسه كونه إضافة إلى احتلاله لفلسطين واغتصابه لها وبعض الأراضي العربية فهو عنصري بامتياز يجاهر بيهودية الدولة والمجتمع وفي هذه الحالة نجاح تجربة لبنان في العيش الواحد بمثابة صفعة لرؤية العدو الصهيوني والملحقين به.
إن لبنان يمر اليوم في منعطف خطير يتمثل بالحرب الناعمة التي تجتاحه وسط حصار دولي وإن كان غير معلن ولكن مثبت بالممارسة ومنع تقديم يد العون تحت وطأة مشروع تتقدم فيه المصالح الصهيونية الإسرائيلية على ما سواها ولو على حساب تجويع الناس وتهديد أمنهم الصحي والبيئي والإجتماعي ، وجعلهم يعيشون في دوامة التخبط والحصار المالي والاقتصادي.
من هنا أتت الخيارات الصعبة التي اتخذها الإمام لمواجهة العدوان والحرمان التي ما زالت تتهدد لبنان من أقصاه الى أقصاه، ولذا فإن إعادة قراءة مشاريع الإصلاح السياسي والتمسك بثوابت حماية الأرض والإنسان نجد أن الإمام الصدر ما زال حاضرًا على مستوى معالجة أزمة الحكم والنظام على حد سواء انطلاقًا من دور لبنان التاريخي والذي ينبغي أن نؤكد عليه، أن لبنان رسالة عالمية وليس ملاذاً للصراعات الطائفية والمذهبية، لأن الصراع الطائفي والمذهبي هو خدمة لإسرائيل وأعوانها وان تجاوز هذا الصراع يعتبر إحياء لدور لبنان التاريخي ولدوره المطلوب أن يكون وحدة لقاء في زمن جحيم الصراع الطائفي والمذهبي والعرقي والاثني في المنطقة.
خمسة وأربعون عامًا تختزل قاموسا وابجدية وميثاقا احوج ما يكون له لبنان ليبقى موسى الصدر حاضرا بكل المفاهيم الاصلاحية والوطنية تحميها أجيال الامس تنهل منها أجيال المستقبل . فكادو كيدهم ولم يتمكنوا من محو ذكرك . اعادك الله ورفيقيك الى بيئتك ووطنك ومحبيك .