تهيؤات - بقلم هيام عبد اللطيف فرج
تاريخ النشر : 12-01-2022 12
الصورة تعبيرية
الصورة تعبيرية
كنت أراه كل يوم يلجأ الى ذلك المقهى المقابل للمبنى حيث يقع المكتب الذي اعمل فيه . في المرة الاولى التي شاهدته فيها كنت اعتقد انها مجرد صدفة , ان يحتمي في هذا المقهى المتواضع , ربما بسبب الصقيع او المطر .
سرعان ما لاحظت زياراته اليومية والمتكررة , وجلوسه الدائم الى الطاولة ذاتها المطلة على الشارع , يتناول فنجان قهوة – فكرت انها لا بد وان تكون مرة" – ينظرتارة الى فنجانه بملل , وتارة اخرى الى المارة عبر الزجاج , بعينين هائمتين لا تركزان في شيء واضح.

حدثت نفسي : ماذا يفعل رجل مثله وبأهميته كل يوم في هذا المقهى المتواضع ؟ استدركت سؤالي بجواب وجدته منطقيا" : لا بد وان حياته الماضية تتراءى له في مشاهد سريعة , تشبه سرعة هطول حبات المطر المنهمر في الخارج.
ففي حياة اخرى كان رجلا"مهما" , من اصحاب السعادة والمعالي , يلفت انظار الجميع اينما حلّ , ويطلب ودّه الجميع اينما وجد, بالطبع , فالكل اراد منه شيئا" ما , البعض كان يطلب المساعدة المادية , وآخر يطلب وظيفة , وآخر منحة دراسية ....
اما الآن فتقاعد الرجل , لم يعد هناك من يريد منه شيئا" , بل لم يعد يتعرف عليه أحد , حتى مساعده المتملق , ذو الوجه الشنيع , لم يعد يسأل عنه , ولا موظفوه سألوا عنه , اصبح وحيدا" , يقضي اوقاته متنقلا" من مقهى الى آخر , دون هدف . حتى انه لم يعد يشبه الناس العاديين , أصبح من دون اصدقاء , من دون عمل , ترافقه الوحدة , ونظرات الناس القاسية والشامتة , واحيانا" المتجاهلة... .

اين الأصدقاء الذين لطالما كانوا حوله يمطرونه بالمديح والتمجيد ؟ الأصدقاء الذين لطالما اجتمعوا حول طاولته ؟ كان يعلم في ذاته العميقة انهم كانوا حوله لغايات في انفسهم , ارادوا توقيعا" ما , او توصية , او خدمة ....
كنت اراه من بعيد , تبدو ملامحه مرهقة , كئيب في نظراته , محبط في زمة شفتيه , نادم في محياه .

كنت اشعر به من بعيد , اتعاطف معه , وكأنني اقرأ افكاره :" آه , لو عاد بي الزمن الى الوراء , لميّزت بين الخبيث والطيب , ولصححت اخطاء" كثيرة " ارتكبتها لمصلحة الخبثاء , وكان ضحيتها الطيبون ".

الآن , لم يعد يمتلك الا هذه الذاكرة الملعونة , التي لا تمل من تعذيبه ليلا" نهارا" , تراءت اليه وجوه اشخاص عيّنهم في الادارات , وهم لا يملكون الكفاءة ولا الخبرة , وانما كرمى لعيون فلان , وتراءت له الوظائف التي سرقها من مستحقين لصالح جهلاء من طرف افراد حاشيته المنافقين , تراءت له الامكنة التي لم تعرف الرجال المناسبين .ووجوه رجال اصبحوا بلا أماكن . كم خان من اشخاص ؟ كم ابكى من عيون ؟ وكم... وكم... كان صدى افكاره يصلني من بعيد :
" ليت الزمان يعود بي الى الوراء , لأرجع وأجلس على ذلك الكرسي المسحور , لأصحح اخطاء الماضي ".
كنت بمنتهى تعاطفي اراقبه من البعيد , فإذا به يعرم صدره , يضع رجلا فوق رجل ... اختفت ملامح الألم عن وجهه ... فمه المزموم , اصبح مشدودا بخبث لئيم .
احسست بضيق في صدري , فشكله يوحي بأنه نسي الألم الذي كان يتآكله منذ قليل , ويوحي أكثر بأنه يتخيل حاشيته حول طاولته , يتخيل المديح , والتمجيد, يتخيل نفسه يغرق الجميع بالتواقيع ... رأيته يضحك عاليا" ... صوته الغير مسموع لي يكاد يصم اذنيّ .
كان المشهد يكاد يكتم أنفاسي , أيقظني صوت بعيد من غيبوبة تعاطفي , يعيد ويكرر هامسا" في أذني : " لي بيجرب المجرب , بيكون عقلو مخرب . لي بيجرب المجرب بيكون عقلو مخرب ", نظرت اليه جيدا"ومن بعيد , نفخ دخان سيجارته عاليا", فتراءت لي امنياته تتلاشى مع هذا الدخان في الهواء .
استعدت انفاسي وهدأ روعي وحمدت الله , فما يرسمه في مخيلته ليس الا... بعض من ... تهيؤات .

   

اخر الاخبار